عزرا باوند
Poetry Foundation
مؤمن الوزان
اشتهر باوند في لندن وباريس حيث اُعترف به شاعرًا حداثيًا مُبتكرًا، ومترجمًا، ومحررًا. لكن سمعته تلطخت بمناصرته النازية ونشاطاته المعادية للسامية.
ولد عزرا لوميس باوند في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر 1885 في بلدة تعدين في منطقة هايلي، أيداهو، حيث عمل والده هيكتور في مكتب أراضٍ فيدرالي. كانت والدته إيزابيل غير سعيدة بالعيش في هذه البلدة الصغيرة، فانتقلت العائلة إلى وينكوت، شمالي فيلادلفيا، حيث التحق الصبي عزرا بالعديد من المدارس قبل أن يُرسل إلى أكاديمية تشيلتينهام العسكرية القريبة في عام 1897. وبعد انتقاله إلى مدرسةِ ثانويةٍ عامّة، حصل على مقعد في جامعة بنسلفانيا عام 1901.
المسيرة الأكاديمية
في الجامعة، كوّن باوند أول علاقة غرامية جادّة له مع هيلدا دوليتل، والتقى بصديق حياته الشاعر وليم كارلوس وليمز. انتقل باوند إلى نيويورك لإكمال دراسته، وتخرج من جامعة هاميلتون في عام 1905، وعاد إلى جامعة بنسلفانيا للدراسة من أجل الحصول على الدكتوراة في شعر التروبادور. بيد أنّه شعر بالضجر وترك الجامعة، لكنه كان قد اكتسب حينها قدرًا جيدا من المعرفة بالأدب الأوروبي، وأصبح قادرًا على التحدث بعدة لغات. انتهت مسيرة باوند الأكاديمية أخيرا بعد شهور قليلة كارثية من التدريس في كلية واباش المشيخية المُحافظة في كروفوردسفيل، إنديانا، حيث كان أسلوب حياته البوهيمي بالكاد مقبولاً. أما القشة التي قصمت ظهره فقد كانت عندما سمح عزرا لفتاة جوقة انقطعت بها السبل بسبب عاصفة ثلجية بالبقاء في غرفته حتى صباح اليوم التالي. وعلى الرغم من إصراره أنَّ أيَّ شيء معيب لم يحدث فقد فُصل من الكلية في شباط/ فبراير عام 1908.
رحلات إلى أوروبا
سافر عزرا -بعد أن فسخ خطوبته من هيلدا- إلى مدينة البندقية، حيث نشر بنفسه أول ديوانٍ له:”A Lume Spento شمعة مطفأة”. انتقل بعدها إلى لندن وهو مفلس، وأخذ معه نسخًا من ديوانه. تواصل مع بائع الكتب والناشر إلكين ماثيوس الذي وافق على مساعدته في الترويج لكتابه، وقد مكّنه ديوانه هذا من الدخول إلى الدوائر الأدبية اللندنيّة. التقى هناك بعدة أشخاص، من ضمنهم الروائية أوليفيا شيكسبير التي قدَّمته إلى كتاب آخرين، مثل الشاعر وليم ييتس. دخل باوند بعدها في علاقة غرامية طويلة مع ابنة أوليفيا، “دوروثي”، التي كانت رسامة شابة، وتُوِّجت العلاقة بالزواج في عام 1914
التجارب الحداثية
في زمن الابتكار المثير في الفنون، كان باوند حريصًا على تطوير أسلوبٍ شعريٍّ “حداثي” جديد. لقد ربط نفسه بـ “مدرسة الصور” -التي تتمحور حول فكرة أن الصورة هي المبدأ المُنظِّم للشعر- وكان رائدها الشاعر والفيلسوف ت.ي. هيوم. استوحى باوند مزيدًا من الإلهام من أصدقاءه الفنانين، بمن فيهم الرسام ويندهام لويس والنحات هنري غادر-بريسكا، واللذين كانا يطوّران أسلوبًا هندسيًا بعد التكعيبيّة أطلق عليه باوند “الدّوّاميّة”. وصلت هيلدا دوليتل إلى لندن في عام 1911 وأثَّرت في تغيير اتجاه عزرا الشعري. وعلى الرغم من فسخ خطوبتهما القصيرة قبل مغادرة الولايات المتحدة، فقد ظل باوند ودوليتل مقرَّبين، وأسسا مع الشاعر ريتشارد ألدينغتون (زوج هيلدا لاحقًا) حركة شعرية سُميَّت بالتصويريّة، والتي شددت على الوضوح الكبير في التعبير في قصائد من الشعر الحر القصير. سرعان ما سئم باوند من المجموعة واعتقد أنها لم تكن تمضي قدما بما فيه الكفاية في حداثيتها. أصبح بعدها مهتمًا بالشعر الشرقي، لا سيما استخدامه المكثّف للغةٍ مُتخفِّفَة من الكلمات الزائدة وتوظيفه المدهش للصور. بدأ على إثر ذلك في ترجمة قصائد صينية عام 1913، وأدرك أن هذا هو الأسلوب الذي أراد أن يتبنَّاه في شعره: الموجز والمباشر والديناميكي. حقق عزرا بعض النجاحات التجارية بمجموعتيه الشعريتين “شخصيات (1909)”، و”الردود الخاطفة Ripostes (1912)”. وشرع في عام 1915 بمشروع رئيس جديد- ملحمة شعرية مُتحدِّية ومعقدة التي ستُصبح لاحقا “الكانتوس (الأغاني) The Cantos”. وعمل أيضا مراسلًا لندنيًّا لمجلة الشعر، التي دافع عبرها عن أعماله وأعمال أصدقائه من ضمنهم هيلدا دوليتل هـ. د.، وريتشارد ألدينغتون، ووليم ييتس، ودعم أعمال جيمس جويس وت. س. إليوت المبكرة.
خيبة ما بعد الحرب
غرق باوند أكثرَ فأكثرَ في الاكتئاب وخيبة الأمل بسبب الحرب العالمية الأولى المُحتدمة من حوله. ومع نهاية الصراع، كان باوند غاضبا كذلك ممّا كان في نظره فقدانًا للتوجه السياسي والاجتماعي، الأمر الذي عكس مشاعره الشخصية بالضياع وانعدام الهدف. كرَّس الكثير من وقته لدراسة الاقتصاد والسياسة، وأصبح ناقدًا لاذعًا للمجتمع البريطاني. كانت قصيدته الطويلة والساخرة المؤلّفة من جزأين Hugh Selwy Mauberley (1920) بمثابة صورة لشاعرٍ مُحبط غير منسجم مع مجتمع حديث عقيم مدمن على الماديّة، وأعمى عن الفن، ولا يرغب سوى في “صورة لتكشيرته المُتسارعة”.
من باريس إلى إيطاليا
سئم باوند ودوروثي من لندن، وانتقلا إلى باريس عام 1921. واصل عمله على الكانتوس، واكتسب سمعة محرر، وساهم في التعليقات النقدية على قصيدة إليوت “الأرض اليباب”، وعلى قصص صديقه إرنست همنغوَي. ابتدأ باوند في باريس علاقة غرامية مع عازفة الكمان أولغا رودج استمرت إلى آخر حياته. لم يستطع أي من باوند ودوروثي الاعتياد على العاصمة الفرنسية، فانتقلا عام 1924 إلى رابالو بإيطاليا، حيث شعر باوند بأنه يستطيع العمل فيها بسلام. تعكّر صفو هذا السلام حين انتقلت أولغا الحُبلى بطفلة باوند إلى إيطاليا أيضا. أما دوروثي التي تغاضت سلفا عن خيانات زوجها فقد انفصلت عنه بعد علمها بولادة ابنته ماري، لكنها كانت حُبلى هي الأخرى بابنه، وارتبطا من جديد قبل ولادة ابنهما “عمر” في باريس عام 1926. استمر باوند في الكتابة على الرغم من هذه الاضطرابات الأسرية، ونشر أول مجلدات الكانتوس، والمجموعة الشعرية “شخصيات”، في الوقت الذي اعتنت بماري أم حاضنة، أما عُمر فقد أرسل إلى جدته، أم دوروثي “أوليفيا” في لندن.
النشاط السياسي والاعتقال
كانت عائلة باوند قد انتقلت إلى إيطاليا بعد مدة وجيزة من تسلّم بنيتو موسوليني والحزب الفاشي زمام السلطة. كان باوند من أشد المعجبين بالـ “الدوتشي” (الذي أسماه “الرئيس”)، وأصبح ناشطا سياسيا على نحوٍ متزايد خلال عقد الثلاثينيات، لدرجة أنّه عاد إلى الولايات المتحدة عام 1939 لحث الحكومة على عدم التدخل في الصراع الوشيك. لم يكتفِ عزرا عند هذا الحد، إذ أصبح مؤيدًا لنازية هتلر خلال الحرب العالمية الثانية وبثَّ أراءه الفاشية والمعادية للسامية للعالم عبر “إذاعة روما”. اعتقل باوند على يد القوات الأمريكية بتهمة الخيانة عندما غزت قوات الحلفاء إيطاليا عام 1945، واحتُجِز في معسكرٍ للاعتقال بالقرب من بيزا. بعدها أودع في الحبس الانفرادي في ظروف بدائية قاسية، لكنه كان ما يزال قادرًا على تدبير شأن الكتابة، وأنتج العمل الذي عُرف بـ The Pisan Cantos. ورُحِّل إلى أمريكا في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من ذات العام ليمثل أمام المحكمة، لكن أُعلن في النهاية أنه مجنون وأُودع في مستشفى سانت إليزابيث في العاصمة واشنطن. وبالرغم من اضطرابه العقلي الواضح، فقد تلك أنتج في هذه المدة الكثير من أفضل أعماله “The Cantos”.
إرث مضطرب
أطلق أصدقاء باوند وزملاؤه الكتّاب حملة لإطلاق سراحه، وتكللت بالنجاح في النهاية عام 1958. عاد باوند إلى إيطاليا على الفور، ودون أيّ ندم على ما يبدو، حين أدى تحيّة فاشية عند وصوله إلى نابولي. عاش مع دوروثي وابنته ماري مدةً في تيرول، ثم عادوا إلى رابالو حيث انضمت إليهم أولغا في علاقة ثلاثية مضطربة، حتى غادرت دوروثي في النهاية إلى لندن لتعيش مع ابنها عمر. كان باوند طوال عقد الستينات رجلا مُحطّمًا، يعاني من الاكتئاب والشك بالذات، وقد منعته صحته المتدهورة من الكتابة بعد عمله “مسوَّدات وأجزاء: كانتوس CX-CXVII”. تلطّخت سمعته كذلك بسبب آرائه الفاشية الصريحة، وكانت الآراء (وما تزال) منقسمة حول حجم الإشادة التي يجدر بالشاعر عزرا تلقيها. تُوفي باوند في اليوم التالي لعيد ميلاده السابع والثمانين عام 1972، حينما كان مع أولغا في مدينة البندقية.