الأستاذ – شارلوت برونتي
مؤمن الوزان

لعبت تجربة بروكسل، الأرض الموعودة كما وصفتها شارلوت، في سني 1842–1844 دورا مهما في حياتها إذ حفّزَتْ فيها دافع الكتابة بعد نهاية تلك الرحلة التعليمية على نحو يُمكن وصفه بالمأساوي، لكنها بذات الوقت حملت في طياتها منعطفًا مهمًا في مسيرتها الأدبية حتى إن الناقد الإنجليزي ماريون سبيلمان قال إن شارلوت “صنيعة بروكسل“. إلا إن هذا القول مبالغ به إذ كانت محاولات شارلوت في الكتابة أسبق من ذلك فقد راسلت الشاعر ساوثي في عام 1837 تطلب منه رأيه في كتاباتها الشعرية وقضت شتاء عام 1840 في الكتابة القصصية، دون نسيان كتابات مرحلة الطفولة مع أخواتها وأخيها برانويل، كل هذا يبيّن لنا أن الكتابة كانت جزءا من حياة شارلوت وليست وليدة بروكسل. ويبدو قرار الكتابة موجودا سلفا لكنه وغامض وغير مؤكد في اختياره فتذكر في إحدى رسائلها الباقية لقسطنطين هيغر والمرسلة في عام 1844 بعد عودتها من بروكسل: “إنَّ ضعفَ البصر حرمانٌ فظيع أخافه –وبدونه أتدري ما الذي سأفعله يا مسيو– سأكتب الكتب وسأهديها لأستاذي في الأدب، إلى أستاذي الوحيد (سيدي) الذي حظيتُ به يومًا– إليكَ مسيو. أخبرتكَ مرارًا بالفرنسيّة ما أكثرَ توقيري لك، وما أكثر ما أنا مدينة للطفك وعطفك ونُصحك، وأرغب في أخبرك لمرة واحدة بالإنجليزية– أن هذا لا يُمكن حدوثه، ولا يجب أن أفكِّر به فالمسيرة الأدبية مُوصدة الأبواب في وجهي، التعليم حَسْب أبوابه مُشرعة قُبالتي مع أنه لا يُقدِّم ذات الإغراءات، لا تكترث لأنني سألجه وإذا لم أصل فيه إلى محطة بعيدة فلن يكون هذا بسبب نقص الجهد المبذول“.
تكشف لنا كل هذه المعلومات عن كون بروكسل محطة ساعدت في تخمير موهبة شارلوت أكثر ثم كانت دافعا مضاعفا للشروع في الكتابة لتكون مهنة –نوعا ما– لا سيما بعد فشل مشروع افتتاح المدرسة الداخلية في هاورث وهو السبب الذي أخذها وإميلي إلى بروكسل لزيادة حظوظهن في اللغات والأدب. إضافة إلى أن هاتين السنتين كانتا بمثابة تطهير لذات شارلوت أكسبها مرارة الحب وفاقمَ معاناتها بمعاناةٍ حبٍّ ذاتية لم تكشف عنها صراحةً لكنها انعكست في منتوجها الأدبي وجعلت من مرحلة بروكسل وأستاذها هيغر مادة غنية ومنبعا لتوليد أفكار رواياتها وكما تقر في رسالتها إلى ناشرها، سميث، حول رواية فيليت قائلة “سترى بأن “فيليت” لا تُلامس القضايا ذات الاهتمام العام؛ لا يمكنني كتابة كتب عن مواضيع الحياة اليوميّة ولا فائدة من المحاولة، كما لا يمكنني تأليف كتابٍ من أجل غايته الأخلاقية، ولا أستطيع أيضًا التعامل مع مواضيع السعي نحو خير البشرية رغم تبجيلي لها إذ سيغطي حجاب التلقائية والإخلاص وجهي قُبالة موضوع مهم كالذي كتبت فيه الآنسة بيتشر في روايتها “كوخ العم توم“. فمن أجل هذه المواضيع لا بد من دراستها مطوّلًا نظريًا وعمليًا، فتُعرف حُمولاتها بصدقٍ محض، وتُحسُّ شرورها بحقٍ وحقيق، ولا يجب أن يحمل امرؤ على عاتقه هذه المواضيع في عمل ربحيّ أو يفكِّر فيها تجاريًا“. وينسحب هذا على رواية جين إير حين كتبت على مخطوطتها وظهرت على غلاف الطبعة الأولى عبارة “سيرة ذاتية“. فشارلوت تكتب ذاتها في رواياتها وتستمد من حياتها مسارًا يحدد اتجاهات رواياتها وتنقلاتها وبُنيتها وشخصياتها وأحداثها. ولا يمكن بحال من الأحوال التغافل عن الأستاذ قسطنطين هيغر الرجل الوحيد الذي أحبته واعترفت له أنها حين تتكلم بالفرنسية تشعر وكأنها تحدّثه مما جعل لهيغر واللغة الفرنسية حضور جليّ في رواياتها، كما كانت وظيفتا المربية والمعلمة وجود رئيس في رواياتها وهذا ما نجده في رواية الأستاذ التي تمحورت حول شخصية وليم كريمسوورث الذي يسافر إلى بروكسل بحثا عن عمل لينتهي به المطاف أستاذا في مدرسة بنات.
على الرغم من الاختلاف بين الروايتين ظاهريا فما لوسي سناو ووليم كريمسوورث إلا شخصية واحدة في سلوكهما المتحدية وأسلوبها حياتهما العصامي وطبيعتهما الرواقيّة وهما بشكل من الأشكال نظائر لشارلوت وحياتها الحقيقية. فضلا عن التماثل في الروايتين عموما سواء في المكان (بروكسل) أو موقع أغلب أحداث الروايتين (مدرسة البنات الداخلية) أو الشخصيات الأخرى وبقيت لكل رواية سماتها المميزة لها التي لا تبتعد كثيرًا عن صاحبتها. غير أن رواية الأستاذ جاءت صريحة في تسمية بروكسل وشارع إيزابيلا وذكر ملاحظاتها فيما يخص هذا البلد وأهله على العكس من فيليت حيث استخدمت أسماء خياليّة كناية عن حياتها في بروكسل.
ومما يميز رواية الأستاذ عن روايات شارلوت السابقة أن شخصيتها الرئيسة والساردة هي رجل عكس بقية رواياتها الثلاث إذ كانت شخصيتها الرئيسة والساردة امرأة، وهذا ما حرر شارلوت في الكتابة وإعمال الخيال فبعض فصول “الأستاذ” امتازت بخياليّة ممتعة افتقرت إليه في أعمالها الأخرى، ولو أعملت شارلوت الخيال في رواياتها دون الاستناد إلى نبع حياتها الذاتية وإعادة طرحه في قالب روائي لربما قدَّمت روايات مميزة أكثر. لكنها تلتزم في الرواية، بعد أخذ كريمسوورث إلى بروكسل، إلى نهجها الذي وضعته في جعل حياتها مصدر رواياتها بكل ما فيها مع تغيير ما يلزم تغييره لأجل بناء رواياتها. لكن رواية الأستاذ من جانب آخر أقل روايات شارلوت صنعةً وأصغرهن حجما وهي ذات أهمية في الوقت نفسه كما تصفها غاسكل لأنها جزء من تاريخ شارلوت الأدبي.
تعود بدايات كتابة شارلوت لهذه العمل بعد عودتها إلى هاورث قادمة من بروكسل في يناير عام 1844 وسعت بعد ذلك مع أخواتها لنشر ديوانهن المشترك بأسماء ذكورية مستعارة (كورير وإيليس وأكتون) في أوائل شهر أيار/ مايو 1846 –الديوان الذي لم يحظَ باحتفاء القرَّاء ولا بنجاح تجاري فقد بيع منه نسختان منه؛ مما دفع الأخوات بإرسال عدة نسخ إلى أبرز شعراء عصرهن وعلى رأسهم وردوزورث مع رسالة إهداء كتبتها شارلوت– إلى نشر أعمالهن النثرية فقُيِّض لكل من إميلي وآن، الأختين الصُغريين، قبول روايتيهما “وذرينغ هايتس“، و“أغنس غري” من قبل دار Newby ورُفِض عمل شارلوت “الأستاذ” في النصف الأول من عام 1847. حاولت شارلوت مجددًا مع أكثر من ناشر ونصحها الناشر السادس، سميث، “لو أن لدى “كورير” عملًا آخر لننشره، وأن السبب لا يكمن في سوء رواية “الأستاذ” لكن لدوافع تجارية فمن الأفضل نشر عملٍ آخر في ثلاثة مجلدات للكاتب“. هكذا لعب العامل التجاري دورًا في رفض رواية الأستاذ التي بقيت حبيسة الأدراج حتى بعد أن اشتهرت شارلوت ويبدو أنها خشيت نشرها بعد أن عُرفت حتى لا تمثِّل الرواية خطوة إلى الوراء إثر تقدمها بروايات “جين إير وشيرلي وفيليت” لكن اعتلج في صدرها رغبة دفينة في نشر الرواية وهذا ما أوصت به زوجها أرثر نيكولاس في زواجهما القصير قبل وفاتها.
تُقدِّم ريبيكا فريزر تفاصيل نشر هذه الرواية بعد وفاة شارلوت في كتابها سيرة “شارلوت برونتي” جاء فيها: “خشيت إليزابيث غاسكل بعد زيارتها بروكسل أن تكون رواية الأستاذ عن المسيو هيغر لكنها شعرت بالراحة بعد أن قرأتها على الرغم من أن أحداثها تدور في مدرسة في بروكسل وما من علاقة مباشرة فيها مع هيغر. وحثَّتْ ناشرَ شارلوت، سميث، على ضرورة نشرها لأنها ذات ارتباط دقيق بتاريخ شارلوت الأدبي، ولأن في هذه الرواية مزية أخرى وما عدَّته غاسكل “أفضل نموذج امرأة جذَّاب رسمته شارلوت” (تقصد المدام كريمسوورث). وذكرت ذات الكلام لزوج شارلوت، نيكولاس، بصفته مالك الرواية ووافق على نشرها بشرط ألا يمُسُّها أيّ تحرير أو تغيير وبذات الوقت “ألا تمنح الرواية أيّ فرصة لنقد خبيث ولأجل ذلك فلا بدَّ أن يطالني هذا النقد والسيدَ برونتي، وإن كان الأمر كذلك فلا بد أن نتريث قليلًا قبل إظهارها للعلن“. ناقش نيكولاسُ السيدَ برونتي حول الرواية بعد ذلك وخلُصَا إلى قرار مفاده “ثمة تعبيران صارخان في الرواية أو ثلاثة قد يُساء فهمها لكن ما من حاجة ملحةٍ لتحرير الرواية، وإن طالها أي تحرير صارم فلن نوافق على نشر هذه الحكاية“.
ارتأت السيدة غاسكل في البداية نشر رواية “الأستاذ” قبل إصدارها كتاب “حياة شارلوت برونتي” فقد كان في نيتها الرد على أي نقد يمس الرواية بسوء، لكنها غيَّرت رأيها في رسالة إلى الناشر سميت تُعبر فيها عن رغبتها في عدم نشر الرواية خشية إساءة فهمها وأن تُستخدم للإضرار باسم شارلوت وسمعتها رغم ما فيها من شخصيّة أنثوية محبوبة ولمحات من حياة زوجية في جزء الرواية الأخير، لكنها تمنَّت لو غيَّر السيد نيكولاس أكثر في الرواية. ونشرت الرواية بعد ذلك في الفاتح من حزيران عام 1857 بُعيد مدة قصيرة من نشر كتاب غاسكل “حياة شارلوت برونتي“”. لذلك نرى عدم وجود أي ذكر في كتاب غاسكل يخصُّ نشر هذه الرواية أو الملابسات والظروف التي مرَّت بها إذ ينتهي كتابها بوفاة شارلوت برونتي.