اعتراف تولستوي
إيمان العزوزي
كتب تولستوي “اعترافه” بما تحمل الكلمة من بعد مسيحي قد يذكرنا باعتراف أوغستين، وهو رجل ناضج أو أكثر من ذلك قليلاً في عمر لم أصل له بعد وهذا ما يمنحني الأمل بأن رحلتي ربما تنتهي يوماً ما كرحلته من حيث القصد والنية طبعاً، إذن كتبها وقد تجاوز الخمسين بقليل.
كتب اعترافه متخففا من همِّ الكاتب بأن يمنح القارئ انطباعا جيدا أو فضولا مثيرا، ما سنقرأه في الاعتراف سيذهب بنا نحو القلق مباشرة مع شيء من المرارة، وهي مرارة نستشعر طعمها في الكتاب فالرجل يعري لنا نفسه وروحه وعقله تماما ويعرفنا على لمحات خافية من حياته حتى نجد أنفسنا نتساءل بعدها هل نعرف الناس فعلا؟
سنتعرف على اكتئابه الطويل الذي في تفاصيله أراه قريباً من ثنائي القطب، وسنقترب بنحوٍ حميمي من أزماته الوجودية والأخلاقية دون مواربة أو خداع، وسنكتشف أن رجلا كتولستوي فكر مرارا في الانتحار بل منحه بعدا مفاهيميا مختلفا عما عهدناه، وفي كثير الأحيان كنت أشعر بسبابته توجه إلي وهو يقول لا تحاولي خداعي أنتِ أيضا، فتأملي… ثم سنبدأ في الاقتراب من رحلته من زاوية أكثر منهجية وأكثر تفصيلاً أو بالأحرى أكثر تربويةً قد تصل إلى البيداغوجية؛ فتولستوي واعٍ جداً بأنه لا يقدم نفسه وتجربته عبثا بل ليكون قدوة نعتمدها متى انطلقنا من الأسباب نفسها وسقطنا في نفس الأزمات وسعينا لنفس الأهداف.
إذًا، سننطلق في قراءة الكتاب واعين بعلاقة تولستوي، التي تعكس علاقاتنا نحن كذلك، بالحياة، والأخلاق، والآخرين، والوجود، والإيمان في صراعه مع العقل والعلم. هناك بعض النقاط التي أرى ضرورة لذكرها قبل التطرق إلى موضوع الكتاب.
في اعتراف، كما قلت بما تحمله الكلمة من ثقل أدبيات المسيحية، سنقترب من تولستوي الفيلسوف وليس الروائي فلن نجد هنا جماليات نثرية بقدر ما سنجد أفكاراً تتبع منهجية معينة. وأظن أن اعتراف يشكل مفتاحاً جوهرياً لقراءة أعمال تولستوي الأدبية، وإن كنت مقصرةً من هذه الناحية إلا أن ما قرأته لتولستوي لحد الساعة أشعر أنني فهمته الآن بنحوٍ أعمق، ولعلي أذكر أمراً آخر بالمناسبة: من يهاجم تولستوي بناء على علاقته بزوجته عليه أن يقرأ هذا الكتاب. وإن لم تخني ذاكرتي فإن توماس مان يؤيد هذه الفرضية ويعتبر أن أعمال تولستوي الأدبية ليست سوى شذرات من يومياته العظيمة التي دأب على كتابتها وهو في سن الخمسين كاعتراف مفصل بلا نهاية. وبالعودة إلى الكتاب، فأظن أن أكثر ما رافقني أثناء القراءة كان “المواجهة” و”القلق”، حيث رافقاني بصفتهما مفهومين شعرت بهما وأنا أقرأ اعتراف تولستوي الذي اعتمد فيه على ضمير المتكلم في مواجهته مع نفسه ثم مع الآخرين، وهي مواجهة قائمة على القلق كما سنعرف أكثر بعد قليل وكما ستؤكده مواجهته للآخرين.
الاعتراف لدى تولستوي لم ينتج عن حاجة عاطفية، كما لم يكن مؤسساتياً، أي وفاء بالتزام لمؤسسة الكنيسة أو حتى بدافع اعتقاد بتعاليم الكنيسة، كما أنه لم يكن بناء على حاجة ملحة للأجوبة من طرف شخص ما كما نجد مع غوتفريد فيلهلم ليبنتز وابنة دوق هانوفر، بل هو خلاصة لمخاض طويل من التجربة الذهنية والجسدية، أي بمعنى آخر من أزمة “أنا” إلى راحة مؤقتة “أعترف” وهذا ما أعنيه بالقلق، فهو كان بمثابة جسر بين الاثنين. لقد كان القلق محفزاً بصفته سبباً ونتيجة، بصفته سبباً للبحث وبصفته نتيجة لإدامة السبب فلا نعود لنقطة الصفر من جديد. هو قلق تبناه تولستوي في مواجهة العدمية المرفوضة كأسلوب حياة نيتشوي أو عبث كعبث كامو فتولستوي لا يريد لسيزيف أن يحمل صخرة ثقيلة قبل أن يدرك ثقلها. وهذا القلق لا نجده في مواجهة مع العلم ومع العقل ومع الدين بل يواجه كذلك علاقة الفرد بكل ما سبق وبكل ما حوله، حيث يسعى تولستوي لتوضيح أن قيمة الفرد داخلية وليست خارجية فلا يشكلها دين أو مجتمع أو تاريخ بقدر ما تشكلها تجربته الذاتية في التأمل والتفاعل، ولذلك سندرك من خلال اعتراف تولستوي رغبته في أن يجعل من التفكير الفلسفي أسلوب حياة للفرد، وهذا يقودنا لفكرة أخرى يحاول تولستوي أن يربينا عليها وهي أن معرفة الذات ليست نشاطاً موسمياً بل عملا يوميا مستمرا.
يبدأ تولستوي الاعتراف بفقدان بطيء للإيمان، لقد تربى على ذلك الدين وفي طفولته بدأ القلق تجاه ما يقوله الكبار ويزداد القلق مع تقدمه في السن، لينتقل القلق الى أمر آخر وهو سعيه للشهرة والنجاح وسط كوكبة من الكتّاب يجمعهم النفاق والمجاملة ومحاولة إصلاح الناس، أي من ينتمون لطبقتهم فقط، في إطار من الحرية تميل للإباحية والعنف فيصل القلق هنا الى معضلة الخير والشر. يترك هذه الجماعة بعد أن يشعر بقرف تجاه نفسه رغم نجاحه في حياته العملية والشخصية. ويزداد القلق توحشاً نحو مواجهة مع العدمية والموت بصفتها مفاهيم تحاول إثبات ذاتها كحقائق، لكن تولستوي سيعلمنا هنا أن الشك طريقه طويلة متى كانت الأسئلة ما تزال قائمة. الأسئلة ستدفعه نحو العلم لكن المجال لم يستطع إقناعه بالعبث أو كيف يمكنه أن يشكل جزءاً من هذا الكل، لينتقل للفلسفة وكبارها وبدورهم سيذهبون به نحو اليأس واللا معنى. لينتقل القلق بعدها لمواجهة مباشرة مع اليأس واللا معنى هذا، فيرتب للمواجهة أربعة احتمالات عيش ممكنة:
– الجهل.
-الأبيقورية (تنتهي بالموت وقبله الشيخوخة).
-الشجاعة (الانتحار).
-الضعف (القبول).
يقدم تولستوي في اعترافه قصة شرقية ربما تختصر هذا المشهد الوجودي بكل ما فيه من مواجهة مع اليأس واللا معنى وفوق كل شيء بكل ما فيه من عجز وعدم وجود مفر. يورد تولستوي القصة الشرقية التالية: مسافر لجأ لبئر للهروب من وحش يلحقه ليجد في انتظاره بقاع البئر تنين، فتشبت بغصن شجرة نابتة في شق من شقوق البئر. تعلق المسافر بالغصن ليأتي جرذان أحدهما أبيض والآخر أسود يقرضان الغصن، أدرك المسافر أنه ميت لا محالة ومع ذلك انتبه لنقط عسل تسقط على أوراق الشجرة فنسي الوحش والتنين والجرذين وأخذ يلعقها.
سيتوقف تولستوي قليلاً أمام هذه النتائج، في مرحلة وصف نفسه فيها بأنه كان يرى التنين بوضوح وبأن العسل قد فقد حلاوته. وهنا سأشعر بأن الاعتراف بلغ ذروته وستنتهي مرحلة وتبدأ مرحلة أخرى نجد فيها بعض الانفتاحات لكنها الأصعب عند مقابلة المرحلتين. سيتحول القلق هنا لما هو أبعد من العقل وإلى ما هو أبعد من المحدود، سيواجه العقل بانتفائه وسنواجه المحدود بغير المحدود وفي هذه المواجهة تكمن قوة إدراك معنى الحياة وهنا سينتهي مخاض تولستوي بانعتاق من طبقته وانغماس تام مع الطبقات الدنيا حيث وجد القوة ومعنى الحياة، وسيفهم أن المشكلة لم تكن في حياة بلا معنى بل في حياته التي كانت بلا معنى. هل سيقف تولستوي هنا بعد أن وجد خلاصه الذاتي؟ لا، لأن الاعتراف جعله ينسلخ أيضا من أنانيته، سيكمل لنا الاعتراف وسيعود إلى الكنيسة من جديد كمنبع للإيمان لكنه سرعان ما سيدرك أن هناك حاجزٌ ما بين الدين وبين الكنيسة كممارسة لهذا الدين فسينفصل تماماً عنها مؤكداً أن ما لا يستطيع التناغم مع أطيافه لن يستطيع هو كفرد أن يتناغم معه وهو في هذا كان يبحث عن دين كوني يجمع البشرية قاطبة، وهذا شهدناه في لجؤه السابق لبوذا والنبي سليمان، وهو هنا يذكرني برحلة أخرى لكاتب آخر في مرحلة لاحقة وهو كزانتزاكس. لا أعرف إن كنت سأبالغ إن وجدت تولستوي يظهر هنا كمجدد للمسيحية (وأظنه تأثر باعتراف سان أوغستين قليلاً) أو مطهراً لها بجعل تفكيره مثالاً على ذلك، وقصدي أن هذه المسيحية هي التي شكلته بدايةً ولكي يطهرها طهر نفسه أولاً ثم اتجه إليها خالياً من أثرها قارئاً لها من الخارج فرأي فيها إيماناً كونياً أكثر منه خاصاً بشعب أو قوم أو جغرافية. سينتهي الكتاب بزخم فكري كبير في مواجهة مع المسيحية والكنيسة، لكن تولستوي سيرفق بحالنا ربما وسيترك هذا الأمر لكتب أخرى تستمر فيها رحلته الفكرية.
هنالك الكثير من التفاصيل في رحلة تولستوي هذه ومنهجيته بالرغم من أنها في كتاب فكري وفلسفي فإن لها تأثيرات عاطفية قوية تكاد تكون درامية تشدك وتدفعك على التفكير، وربما هذا يعود لطبيعة الاعتراف نفسه وما فيه من خصوصية. لقد كانت صراحة اعتراف تولستوي بكل ما فيها من مواجهات مع نفسه ومع العالم صراحة تستحق الصمت، صمت من يسمع ويتعلم ويقرر أن يتأمل هو كذلك. إن هذا يذكرني بمسألة طالما ناقشتها بيني وبين نفسي: ما الذي يجعل تولستوي متميزاً ضمن كوكبة الكتاب الروس الذين ظهروا في تلك الحقبة أو لعلي أوضحها أكثر بقول عصر الرواية الروسية، ما الذي يجعله متميزاً عن دستويفسكي مثلاً الذي أحبه روائيا وأكرهه شخصا، ما الذي يجعله مميزاً لنشعر بذلك الصمت الذي عم غرفة والديَّ نابوكوف حين علما باحتضار تولستوي وكأن مأساة وطنية مست الأمة الروسية كاملة، الأمر يذكرني بما قاله جورج ستاينر في محاضرة ألقاها بندوة خصصت لأعمال تولستوي حيث ذكر فيها قرية أجداده الصغيرة وكيف أن أهلها خرجوا بصمت حين بلغهم خبر وفاة تولستوي، ثم سأل ستاينر الحاضرين: “هل تعرفون الآن أحداً من الممكن أن نخرج من أجله صامتين؟”
فهل تعرفون أنتم؟