نصوص نثرية – إيفان تورغينيف
اختارها وترجمها عن الروسية: عمران أبو عين
إيفان تورغينيف (1818- 1883) كاتبٌ وروائيٌّ روسيّ، كَتبَ العَديد من الرِّوايات والقِصص والمَسرحيات. ترجمنا هنا مَجموعة نُصوصٍ نَثريّة أو مَا تُسمى بِقصائِدَ نثريّة، تَتَراوحُ مَا بَين القَصيرة والقَصيرة جدّاً.
النَّصُّ الأوّل: كَلب
نَحنُ اثنان في الغُرفَةِ، أنا وكَلبي، فِي الفِناءِ صَوتٌ مُرعِبٌ، عَاصِفَةٌ هَوجَاء.
يَقعي الكَلبُ أَمامي، وَيَنظُرُ إليَّ، مُباشرةً في عَيني.
وأَنا كَذلك أَنظرُ إِليهِ.
كَانَ يُريدُ أَنْ يَقولَ لي شَيئاً ما، لكنّهُ صَامِتٌ لا يَتكلم، هو نَفْسُهُ لا يَفهَمُ نَفْسَهُ، لكنّني أَفهمُهُ!
أَنا أَفهمُ أَنّهُ في هذهِ اللحظة نَشعُر معا بذات المَشاعر، لا فَرقَ بَيننا، نحنُ مُتشابِهان، في كُلِّ وَاحدٍ مِنا تِلكَ الشُعلة الّتي تُضِيءُ وتَحتَرق…
سَينتزِعُكَ المَوت، يُلوِّحُ لكَ بِأجنِحَتِهِ العَريضةِ البَاردة…
ثُمَّ النِهَاية!
بَعدَ ذَلك، مَنْ سَيكتشفُ ما هي تِلك الشُعلة الّتي كَانتْ تُضِيءُ في دَاخِل كُلٍّ مِنا؟
لا، هذا ليسَ حَيواناً أو إنساناً يَتبادلون وجهات النَّظر…
هذان زَوجان مِن العُيونِ المُتشابِهَة يُحَدِّق بَعضهما إلى بعضٍ.
في كُلِّ وَاحدٍ من هَذين الزّوجين، في الحَيوانات والإِنسان، هي الحَياة نفسها الّتي تَضغَطُ بنحوٍ مُخيفٍ على كُلِّ وَاحدٍ مِنها.
*
النَّصُّ الثَاني: اللُّغةُ الروسيّة
في أَيّامِ الشَّكِّ والرَّيبَة، في أيّام التَفكيرِ المُؤلم في مَصير بَلَدي، أَنتِ الوَحيدة الّتي تَسْنِدُني وتَدعَمُني، أنتِ أَيَّتُها اللُّغةُ الروسيّة، أَيَّتُها الجَبارة والعَظيمة والحُرّة. من دُونَكِ كَيف لا نَقعُ في اليَأسِ عند رُؤيةِ كُلِّ ما يَحْدُث؟ لكنْ لا يَجِبُ أَنْ نُصَدّق أَنّ مثلَ هَذه اللُّغة لَم تُمْنَح لِمثلِ هذا الشَّعب العَظيم!
*
النَّصُّ الثَالِث: إِلى القَارِئ
عَزيزي القَارِئ، لا تَقْفِز عن هَذهِ القَصائد (النُّصوص) عَلى التَوالي، رُبَّما سَتُصابُ بِالمَلَل، ويَسْقُطُ الكِتابُ مِنك، لكنْ قَسّمها إلى عِدَّة أَجزاء، اليَوم وَاحِدة، وغَداً أُخرى، رُبّما سَتَتمكَّنُ وَاحِدة مِن هَذه القَصائد من الوُصولِ إلى رُوحِك!
*
النَّصُّ الرابِع: بَدأتْ تَبكي
لَقدْ بَدأتْ تَبكي لأنّي حَزين، وأَخذتُ أَنا بِالبُكاءِ نَتيجةَ حُزْنِكِ عَلّي، لكنَّ الظَاهِرَ أَنّكِ بَكيتِ لأَحزَانَكِ، عندمَا رَأيْتِهَا مُتَمثِّلَة فيَّ!
*
النَّصُّ الخَامِس: لِقَاء
لَقد حَلمتُ: كُنتُ أَمشي في سُهوبٍ وَاسِعَةٍ جَرداء، مملوءةٍ بِالحِجارَةِ الكَبيرةِ، تَحتَ سَماءٍ سَوداء مُنخَفِضَة.
بَين الحِجَارَة رَأيتُ طَريقاً، وَمَشيتُ فيهِ دُونَ أَنْ أَعرِفَ لِماذا وأَين…
وَفَجأةً في هَذا الطَريق الضَيّق، خَرجَ أَمامي شَيءٌ كَأنّهُ غَيمَةٌ رَقيقَةٌ.
بَدأتُ بِالتَّحديقِ، تَحوّلتْ الغَيمة إِلى امرأةٍ، امرأة نَحيلة طَويلة، في رِداءٍ أَبيض، بَدأتْ تَبتَعد عَنّي بِخُطَىً وَاسِعَة.
لَم أَرَ وَجهَهَا ولا حَتّى شَعْرَهَا، كَانَتْ مُغَطاةً، بَدأَ قَلبي يَرتَجِفُ نَتيجَةَ التَّحديق لَها، بَدتْ لي منتهى في الجَمالِ واللُّطف.
أَردتُ اللَّحاقَ بِهَا، أَنْ أَنْظُرَ فِي وَجهِهَا في عَيْنَيهَا، أُووه نَعم، أَردتُ أَنْ أَرى، كَانَ لا بُدَّ لي أَنْ أَرى تِلكَ العُيون.
كُلَّما حَاولتُ اللَّحاقَ بِها، أَخذتْ تَبتعد بِخُطَىً وَاسِعة، ولَم أَستطعْ تَجاوزَها.
وها قَد ظَهرَت وَسطَ الطَّريق صَخرةٌ كَبيرةٌ… سَدَّتْ عَليها الطَّريق.
تَوقفتْ المَرأة أَمامَ الصَّخرةِ، أَسْرعتُ الخُطى بِفَرحةٍ لا تَخلو مِن رَجفةِ الخَوفِ.
لم أقلْ شَيئاً، لكنّها التفتْ بهُدوءٍ إليَّ.
ومَع ذَلك لَم أرَ عَيْنَيهَا، كَانَتا مُغلَقَتين.
كَان وَجْهُهَا أَبيضَ، أَبيضَ كَملابِسِها، بِذراعين ثَابتتين وعَاريتين، وكَأنّها تحجَّرتْ، كَانتْ هذه المَرأة بكُلِّ تَفاصِيلِها تُشبهُ تِمثالاً مِنَ الرُّخام.
وبِبُطءٍ، ومن دُون أنْ تُحرّكَ أَيّ طَرفٍ من أَطرافِها، انحَنَتْ إلى الخَلف، وتَمَددَّتْ باستواءٍ على شَاهِد قَبرِهَا، وهَا أَنا استَلقي إِلى جَانبِها مُمددَّاً على ظَهري بِالكامل. على شَاهِد قَبرِي.
وَاضِعاً يَداً فَوق يَدٍ على صَدري، وأَشعرُ بأنّي أصبحتُ أيضاً مُتحجِّراً كَتمثالٍ.
وبَعدَ عِدّةِ لَحظاتٍ قامتْ المَرأة وذَهبتْ بَعيداً.
أردتُ اللَّحاقَ بها، لكنّني لم أستطع التحرّك، ولم أستطع فُكاكَ يَدي، وأخذتُ فَقط النَّظرَ إِليها، مِنَ الخَلف إلى ظَهْرِها، بِحُزنٍ عَميق لا يُوصَف.
وهَا هي ذا قَدْ عَادَتْ، رأيتُ عُيوناً مُشرِقَة، على وَجهٍ حَيّ، وقدْ تَوجَّهتْ إليّ بِهذهِ العُيون، وأخذتْ تَضْحَكُ من دُونِ صَوتٍ، فَقط بِشَفَتيها.
انْهَضْ وتَعالَ إليّ!
وما زِلتُ لا أَستطيع التحرُّك.
وعِندها أخَذتْ بِالضَحِكِ مَرَّةً أُخرى، وغَادَرتْ بِسُرعَة.
وبِمَرَحٍ أَخذتْ تُحرِّكُ رَأسَها، وفَجأةً، سَطَعَ إِكليلٌ من رَأسِها، بِزُهورٍ صَغيرة
وبقيتُ أنا سَاكِناً صَامِتاً، أَنظُرُ إلى شَاهِد قَبري!
مُلاحظة: في روسيا، عَادةً ما توَضع صُورة المُتوفى على شَاهِدَ القَبر، لذلك، فعندما يقولُ الكَاتبُ بأنّهُ تَمددّ على شَاهد القَبر، فهو يَقْصِدُ قَبرَهُ وقَبرَهَا، فكأنَّ الحُلُمَ كُلُّهُ يَدورُ حَولَ لِقاءٍ بين أَشْخَاصٍ مُتوفين.
*
النَّصُّ السَادس: مُنَافِس
كَانَ لَدّي رَفيقٌ مُنافِس، مُنافِسٌ بِمَعنى أَنّ وُجهَاتِ نَظَرِنا كَانتْ مُختلفة كُليّاً، وفي كُلِّ مَرّةٍ عِندمَا كُنا نَلتقي تَبدأُ الخِلافَات دُونَ نِهاية.
كُنا نَخْتلفُ في كُلِّ شَيءٍ، في الذَوقِ والعُلومِ والدّين واليَوم الآَخِر، خُصوصَاً في مَوضوعِ الآَخِرة.
لقدْ كانَ شَخصاً مُؤمِناً مُتحمِّساً، لقدْ قَالَ لي مَرّةً:
أنتَ تَسْخرُ من كُلّ شَيء، لكنْ لو مِتُّ قَبلكَ سَأعودُ إليكَ من ذَلك العَالَم. وسَنرى هَل سَتضحَك عِنْدها؟
ولقدْ مَاتَ حَقاً قَبلي وهُو في سِنِّ الشَّباب، ومَرَّتْ سَنواتٌ عَديدةٌ، وكنتُ قَد نَسيتُ وَعْدَهُ وتَهديدَهُ.
في إِحدى المَرات كُنتُ مُستلقيّاً على سَريري، ولم أستطع، بَلْ لَم أَرغبْ في أَن أَغفو.
ولم تَكُ الغُرفَةُ مُضيئةً أو خَافِتة، وأخذتُ أُحَدِّقُ إلى الشَفقِ الرمادي…
وفجأةً، تَهيّأ لي أنّ مُنافسي قدْ ظَهرَ بين النَافذتين وأخذَ يَهزُ رَأسَه من الأَعلى للأَسفل بِحُزنٍ.
لم أخفْ. بلْ حتّى لم أَتفاجأ، سويّت نفسي واستندتُ إلى كُوعي، وأخذتُ أُحدِّقُ بِاهتمامٍ إلى ذَلك الشيء غَير مُنْتَظَر الّذي ظَهرَ أَمامي.
وكَانَ يَسْتمرُّ في هَزِّ رَأسه.
ماذا؟ وأخيراً بدأتُ بِالكَلامِ، ماذا تَفعل، أَتحتَفِلْ أَم أَنتَ حَزين؟ هَل تُحذِّرُني أو تُعاتِبُني؟ أَو إنّكَ تُريدُ أنْ تُوصِلَ رِسَالةً بِأنَّك لم تكُ عَلى حَقٍّ؟ أَو إنّ كِلانَا كَان على خَطأ؟ بِماذا تَشْعُر، بِنَعيمِ الجَنّة أم عَذابِ الجَحيم؟ تَكلَّم ولو بِكَلِمَة!
لكنّ مُنافِسي لَم يَتكلّم بِكَلِمَة وَاحِدة، واسْتَمرَّ يَهِزُّ رَأسَه من الأعلى إلى الأَسفل بِحُزنٍ.
وابتسمتُ. واختَفى!
مُلاحَظة: يَبدو أَنَّ تورغينيف لَم يَكُ يُؤمِن بِالآَخرة!
*
النص السابع: نهضتُ ليلاً
نهضتُ ليلاً من سريري، خُيّل لي أن أحدهم قد ناداني باسمي. هنالك خلف النافذة المظلمة، قربت وجهي للزجاج، أصختُ السمع وثبت نظري، وبدأتُ بالانتظار. لكن هُنالك خلف النافذة لم يكن إلا صوت تمايل الشجر، بطريقة رتيبة مكررة، وسحابة دخانية، وعلى الرغم أنها ظلت تتحرك وتتغير فقد بقي كل شيءٍ على حاله؛ لا نجوم في السماء، ولا ضوء على الأرض. هُناك ملل وظلمة، مثلما هو هنا في قلبي. لكن فجأة، ومن بعيد، سمعتُ صوتاً حزيناً، وبدأ تدريجياً بالاقتراب، ورن صوت بشري، انخفض الصوت وتجمد، وكأنه اندفع للماضي “وداعاً، مع السلامة، وداعاً”. بدا لي تجمده آآه! هذا كل ماضيّ، كل سعادتي، كل شيءٍ، كل شيءٍ عزيز ومُحبب، ودعني للأبد من دون عودة! انحنيتُ لحياتي الراحلة، ودفنتُ نفسي في السرير كأني في قبري. آآه! يُمكنني الذهاب للقبر!
*
النص الثامن: كَأس
مُضحك لي، وأَنا مندهش من نفسي.
حُزني ليس مزيفاً، لدي حقاً حياة صعبة ثقيلة، مشاعري حزينة كئيبة.
وعلى الرغم من ذلك أُحاولُ إِعطائها جمالاً وبريقاً، أُقارِنُ، أُحيط عِباراتي برنينٍ وتناغم.
أَنا مثل نَحاتٍ أو صائغٍ مُحترف، أحرص على النحتِ بعنايةٍ، وبكل الطريق، تلك الكأس التي سوف أُقدم فيها السُّمُّ لنفسي!
*
النص التاسع: أَشعرُ بِالأَسف
أَشعرُ بالأسف على نفسي وعلى الآخرين، وعلى الناس أجمعين، والحيوانات والطيور، على كلِ المخلوقات.
أشعرُ بالأسفِ على العجائزِ والأَطفال السعداء منهم والتعساء.
أشعرُ بالأسفِ على القادة المنتصرين، على الفنانين العُظماء وعلى الشعراء.
أشعرُ بالأسف على القاتل وضحيته، على الجميل والقبيح، على الظالم والمظلوم.
كيفَ يمكن أن أتحرر من مشاعر الأسفِ هذه؟ فهي لا تدعني أعيش.
بالإضافةِ لذلك تشعرني بالملل.
الملل.. الملل يتحول إلى شفقة! لا يجب على الشخص أنْ يسمح لنفسه بأن ينخفض مُستواه!
كان من الأفضلِ أن أكون حسوداً. أليس كذلك؟
كُنتُ حينها سأحسدُ الحجر!
*
النص العاشر: عندما أُغادر العالم
عندما أُغادر هذا العالم، عندما أتحول إلى رماد، أنت يا صديقي الوحيد، أنت الذي أحببتك بعمق، أنت الذي ربما ستعيشُ بعدي. لا تذهب إلى قبري. لن يكون لك عمل هُناك. لا تنسني. ولا تذكرني مع الهموم والمشاغل اليومية، لا أُريد أن أُفسد عليك حياتك. لكن في ساعة الوِحدة، عندما يأتيك الحُزن الذي لا مُبرِر له، ذلك الحُزنُ الذي يأتي لأصحابِ القلوب الطيبة، تناول أَحد كتبنا المفضلة وابحث عن تلك الصفحات، تلك السطور والكلمات، التي تجعلك تتذكر. لقد خرجت من كلينا تلك الدموع الحلوة في الآن نفسه، اِقرأ، أغمض عينيك ومد لي يديك. مدها لصديقك الغائب، لن أستطيع الضغط عليها، ستكون هُناك راقدة تحت الأَرض. أستطيعُ أن أُفكر وأنا راضٍ، بأنك ربما ستشعر بلمسةٍ خفيفةٍ على يديك، ستظهر صورتي لك، وتسيل دموعك من عينيك المغمضتين، كتلك الدموع التي ذرفناها معاً، أنت صديقي الوحيد، أنت الذي أحببته بعمقٍ وبكل جوارحي.