صيد السلمون في اليمن
بول توردي
بلقيس الكثيري
رواية Salmon Fishing in the Yemen من تأليف الكاتب البريطاني بول توردي، وهي أول رواياته حيث بدأ الكتابة وهو في الخمسينات من عمره، ثم كتب بعدها ست روايات أخرى. ونُشرت روايته الأولى عام 2007، أي قبل ثمانية أعوام من تاريخ وفاته. ناهيك عن الفكرة غير الممكنة في العنوان، واسم اليمن الظاهر فيه، إلا أن أكثر الأشياء التي استحوذت على تفكيري أثناء قراءتي لهذه الرواية هي الطريقة التي قولب فيها الكاتب البريطاني بول توردي اللعبة السياسية، وسرد أحداثها في قالب روائي محصور في مجموعة من المراسلات والمحاورات الصحفية والمقالات واليوميات.
من يعرف اليمن وطبيعته المناخية يدرك أن درجة الحرارة المرتفعة تحول دون حياة أسماك السلمون في مياه اليمن، وتحديدًا في وديانها المعرّضة لدرجات حرارة عالية جدًا، وهذا ما يضفي الاستحالة على هذه الفكرة المجنونة. إلا أن أحد الجوانب الإيجابية لهذه الرواية -والذي تكرر على لسان الشيخ- هو أهمية الإيمان بالهدف مهما كان مستحيلًا. فبالعلم استطاع الإنسان أن يساهم إلى حد كبير في تطويع الظروف الجغرافية والمناخية لجعل غير الممكن ممكنًا، وبذلك فإن المؤمنين بتحقيق المستحيل لا تحول الظروف أمام تحقيق رؤاهم. هذا في ظاهر الرواية أما عند التعمق في مضامينها، فالأمر -بصورة أدق- كما وصفته الأديبة والكاتبة اليمنية هند هيثم التي قالت ساخرة أن هذه الرواية كُتبت لتصوّر لنا أن الطريقة المُثلى لتحسين الحياة في اليمن -ووقف الإرهابيين الذين يأتون منها- إقناع المُجتمع المحلي بأن مشروع الشيخ لتقديم رياضة صيد السلمون إليهم يهدف إلى تمدينهم، وجعلهم أكثر حضارة. (وكأنهم) لا يحتاجون إلى مدارس جيدة، أو إلى نظامِ صرفٍ صحي جيد، أو إلى مُستشفيات جيدة، أو إلى نظام ريٍ، أو إلى منازل جيدة، أو إلى طُرقات جيدة، أو إلى عدالة اجتماعية، أو إلى توزيع عادل للثروة. كُل ما يحتاجونه الإذعان للشيوخ (أصحاب الرؤى) الذين يمتصون دماءهم ليبتاعوا قصور الأرستقراطية الزائلة في بريطانيا، ويتعاونون مع البريطانيين لجلب مشاريع خرافية إليهم، تُلغي وجودهم أكثر وأكثر، وتحولهم إلى أدواتٍ فلكلورية لتسلية السياح. لا يُهِم حياتهم أو موتهم أو كيفية معيشتهم، المُهِم أن السمك يسبح عكس التيار، وأن البريطانيين غاية في السعادة لأنهم (يفهمون) الشعوب التي استعمروها سابقاً و(يساعدونها)… وبعد قراءتي للرواية واطلاعي على مجريات الفلم الذي عُرض عنها عام 2011 ما زلت عاجزة عن إيجاد المبررات التي جعلت كاتب السيناريو سيمون بيوفوي يحوّل رواية كهذه مليئة بالأبعاد السياسية إلى كوميديا درامية تقلل قيمتها!
أبرز شخصيات الرواية
الشيخ محمد بن زيدي بني تهامة: من أثرياء اليمن، ويمتلك منزلًا في اسكتلندا. قرر أن ينقل رياضة صيد السلمون التي يحبها إلى منطقته في اليمن (وادي العين). وتجدر الإشارة إلى أن وصف الشيخ هنا من منظور قَبلي وليس ديني، بمعنى شيخ القبيلة.
ألفرِد جونز: عالم أسماك وموظف مدني في المركز الوطني لصيد الأسماك، يجد نفسه مضطرًا للمساهمة في مشروع إدخال صيد السلمون في اليمن بعد ضغط من الحكومة، رغم قناعته في البداية باستحالة الفكرة وأنها مضيعة للوقت والجهد.
ماري جونز: زوجة عالم الأسماك ألفرد، امرأة مثابرة في عملها، تشوب علاقتها بزوجها ألفرِد بعض الاضطرابات بعد قرارها السفر للعمل في الخارج حرصًا على تقدمها المهني.
هارييت تالبُت: موظفة بريطانية في مكتب مُحاماة يُمثِل أملاك الشيخ في بريطانيا، وهي التي تساعد الشيخ في مُهمته. وهي خطيبة الكابتن روبرت الذي تفقد اتصالها به بعد إرساله إلى العراق.
الكابتن روبرت ماثيوس: خطيب هارييت الذي يُفقد أثناء قيامه بأحد المهمات العسكرية في العراق، ثم يظهر بأنه اُبتعث في مهمة سرية إلى الأراضي الإيرانية.
بيتر ماكسويل: المستشار السياسي والمسؤول الإعلامي عن مكتب رئيس الوزراء البريطاني.
جاي فينت: شخصية خيالية تلعب دور رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير.
ملخص الرواية
يقرر الشيخ اليمني محمد بن زيدي إدخال رياضة صيد السلمون التي يحبها إلى بلاده، ويستعين في ذلك بالمركز الوطني لصيد الأسماك في بريطانيا، ولكن عالم الأسماك ألفرِد جونز يرفض العرض بحكم أن هذا المشروع غير ممكن. وحرصًا من الحكومة البريطانية على تضليل الشارع العام حول الأحداث السياسية والعمليات العسكرية التي تخوضها بريطانيا في أفغانستان والعراق، يبحث المستشار السياسي لرئيس الوزراء عن قصةٍ جذابة من الشرق الأوسط، وعندها يلتقط خبرًا عن مشروع صيد السَلمون الذي يسعى أحد الأثرياء اليمنيين لتمويله، وهنا تتدخل الحكومة لتجبر المركز الوطني للصيد على التعاون مع الشيخ، ثم يضطر الدكتور ألفرِد جونز للتعاون مع هارييت والشيخ رغم قناعته باستحالة الفكرة نظرًا للاختلاف الكبير بين الظروف البيئية لليمن وظروف البيئة الاسكتلندية.
يتم العمل على قدم وساق لتحقيق المشروع عن طريق بناء حوض سمكي تتوفر فيه ظروف مماثلة للبيئة التي يعيش فيها السلمون، وبناء سد كبير لحفظ مياه الأمطار، ليجري منها ما يُشبه النهر العظيم لتسبح فيه أسماك السلمون. وقبل تنفيذ الخطوة ما قبل الأخيرة من المشروع وهي نقل عشرة آلاف سمكة سلمون من الأنهار الاسكتلندية إلى اليمن، يثير هذا الأمر حنق الصيادين البريطانيين، وحين يعلم بيتر ماكسويل بأن عددًا كبيرًا من الصيادين في المملكة المُتحدة يعارضون، يقوم بسحب دعم الحكومة للمشروع حرصًا على أصوات الناخبين. يُطلب من الشيخ ومن معه أن يستعينوا بأسماك سلمون من مزارع السمك، (أسماك داجنة)، الأمر الذي يُقاومونه في البداية ثُم يُذعنون له. يحاول بيتر جذب اهتمام الصيادين إلى رئيس الوزراء وكسب أصواتهم بينما يحاول الشيخ ومن معه تحقيق معجزة. على صعيد آخر هناك علاقة هارييت بخطيبها الجندي البريطاني روبرت، الأمر الذي يسلط ضوءًا على مساوئ تدخل بريطانيا في حرب العراق. حيث يُرسل روبرت إلى العراق في مهمة عسكرية، وتظل هارييت على تواصل معه في البداية رغم طمس مكتب المخابرات لكثير من أجزاء الرسائل التي يرسلها روبرت لأسباب أمنية. وبعد فقدانها التواصل معه يتم إبلاغها بأنّه مفقود، ومن ثم بأنّه قُتِل؛ لكن ليس في العراق بل في إيران!
لم يغفل بول توردي الدور الذي تلعبه القاعدة في اليمن، من خلال تضمين اسم القاعدة في محاولتهم لاغتيال الشيخ الذي يتعاون مع البريطانيين. تفشل محاولة الاغتيال الأولى، وفي الثانية ينجحون بفتح السد الذي يخرج منه سيل يجرف كُل شيء في طريقه، مُدمرًا النهر الصناعي، ويموت على إثره الشيخ ورئيس الوزراء جاي فينت.
بعيدًا عن صيد السمك ومجريات الأحداث سأسلط الضوء على ثلاثة محاور استرعت اهتمامي في ظل ما ورد في سياق هذا العمل الأدبي:
الإعلام لعبة السياسيين
لا يخفى على أحد كيف أدخل رئيس الوزراء البريطاني بلاده في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وتحديدًا في أفغانستان والعراق، وحفر حفرًا أوقع فيها نفسه، فكان السؤال كيف سيخرج منها؟ وإذا به يمضي في الحفر أكثر.
إن تسييس التغطية الإعلامية هي لعبة كل السياسيين في هذا العصر، وهنا تسعى الحكومة البريطانية لإشغال الشارع البريطاني، وصرف انتباهه عن الشؤون السياسية الجوهرية إلى الأمور الأقل أهمية؛ ومن ذلك حرصها على مشروع إدخال السلمون إلى اليمن بوصفها تجربة استثنائية في الصحراء، لصرف النظر عن مساوئ تدخل بريطانيا في حرب العراق.
وقد جاء على لسان المستشار السياسي لرئيس الوزراء في هذا النص الروائي عندما سئل عن أسباب ضلوع الحكومة ودعمها لمشروع صيد السلمون في اليمن أن أجاب:
I think someone held a map upside down and bombed a hospital in Iran instead of a militants’ training camp in the Iraq desert….P. 99, Peter Maxwell
“أظن أن أحدهم حمل الخريطة بالمقلوب وقصف مستشفى في إيران بدلاً من معسكر تدريب للمتشددين في صحراء العراق…”
– بيتر ماكسويل؛ ص 99.
لذا كان لا بد من إيجاد قصة يصرف بها النظر عن الفظائع التي تمارسها الحكومة، كما صرّح:
“If the news is very bad, I come up with a different story. The attention span of most of the media is about twenty minutes, and a new story, a new angle, normally tempts them to drop the bone you want them to drop, and look at the new bone you’re offering them.” P. 99, Peter Maxwell
“إذا كانت الأخبار(التي تصلنا) سيئة جدا، أجد قصة مختلفة. إن مدة التركيز على الحدث في معظم وسائل الإعلام تبلغ نحو عشرين دقيقة، وعادة ما تغريهم القصة الجديدة، من زاوية أخرى ليقذفوا بالعظمة التي تريد منهم إلقاءها؛ وينظروا إلى العظمة الجديدة التي تعرضها عليهم”.
– بيتر ماكسويل؛ ص 99.
وفي عبارة أكثر وضوحًا، بيّن فيها هذا الهدف، قال:
“Suddenly the stories about dead bodies in the Middle East were on pages four and five. The front pages were about fish,…” P. 109, Peter Maxwell
“فجأة أصبحت قصص جثث الموتى في الشرق الأوسط في الصفحة الرابعة أو الخامسة. حين شغل الحديث عن السمك الصفحات الأولى…”
– بيتر ماكسويل؛ ص 109.
الغزو الفكري للعالم الإسلامي
مهما حاول بعض بني جلدتنا تلميع صورة الغرب، وإظهارهم بمظهر الحمل الوديع هناك حقيقة لا مفر منها ولا مناص ألا وهي أن غزو العالم الاسلامي يقع دائمًا ضمن أجندتهم، علِم ذلك من علِمه وجهله من جهِل. وتظل هناك حروب تُشن ضدنا –سرًا وعلانية- على الصعيدين السياسي والفكري.
وبصريح العبارة يقول بيتر ماكسويل، المسؤول الإعلامي لرئيس الوزراء البريطاني، مؤكدًا على ما سبق:
“Fourteen hundred years ago Islam began in the Arabian desert and within a century controlled an area which extended from Spain to central Asia. The same thing might be about to happen now. Or it could go the other way.
Images of people in the Middle East dressing like westerners, spending like westerners, that is what the voters watching TV here at home want to see. That is a visible sign that we really are winning the war of ideas- the struggle between consumption and economic growth, and religious tradition and economic stagnation.” P. 236 Peter Maxwell
“منذ أربعة عشر قرنا بدأ الإسلام في الصحراء العربية وخلال قرن من الزمن حكم بقعة امتدت من إسبانيا إلى آسيا الوسطى. والآن الأمر ذاته على وشك الحدوث، أو ربما يكون في الاتجاه المعاكس. ما يريد الناخبون مشاهدته في التلفاز هنا في منازلهم أن يروا صورًا لأشخاص من الشرق الأوسط يرتدون ملابس مثل الغربيين، ويصرفون مثلهم. إنها علامة واضحة على أننا فعليًا انتصرنا في حرب الأفكار؛ الصراع بين الاستهلاك والنمو الاقتصادي، والتقاليد الدينية والركود الاقتصادي”.
– بيتر ماكسويل؛ ص 236
وقد نجحوا فعلًا في اختراق مجتمعاتنا لأبعد الحدود، فصار بيننا من يتبنى الفكر الغربي ويدافع عنه، مهما كان منحطًا، ومجردًا من الأخلاقية والإنسانية وبعيدًا كل البعد عن قيم هذه الأمة وتعاليمها وأخلاقياتها. أما عن الكيفية التي انتهجوها -وما زالوا ينتهجونها- لتحقيق ذلك فيقول ماكسويل:
“I am going to tell you how to win the hearts and minds of everyday working people of the Middle East without firing another shot.”
“I told them about the low-cost TV sets that would be distributed in the countries we most wanted to extend our influence in, TV sets that would only tune into one channel, voice of Britain, and the network of transmitters that would beam in the new programmes twenty-four hours a day, seven days a week…”
P. 247-248, Peter Maxwell
“سأخبرك بكيفية كسب قلوب وعقول الشعب الكادح في الشرق الأوسط دون إطلاق رصاصة أخرى”.
” أخبرتهم عن أجهزة التلفزيون منخفضة التكاليف التي سيتم توزيعها في البلدان التي نريد توسيع نفوذنا فيها، وأجهزة التلفزيون التي من شأنها أن تبث قناة واحدة فقط، صوت بريطانيا ، وشبكة الإرسال التي من شأنها أن تبث في البرامج الجديدة أربع وعشرون ساعة في اليوم، سبعة أيام في الأسبوع… “
– بيتر ماكسويل، ص 247-248.
لقد ابتدعوا من البرامج التافهة والخبيثة ما تلقفه الإعلام العربي فشرع في محاكاتها، ونشروا أفكارهم وانحطاطهم الأخلاقي، فعلَت أصوات بيننا تنادي بفصل الدين عن الحياة، وتدافع عن رذائل الأخلاق من حقوق للمثليين، والعلاقات المحرمة وإباحة للفسق والفجور.
العمليات السرية للجيش البريطاني
بطريقة ذكية يذكر بول توردي الفظائع التي تنتهكها الحكومة البريطانية، ليس في حق البلدان الأخرى فحسب، بل وفي حق الجنود البريطانيين أنفسهم وذلك بالزج بهم في العمليات العسكرية ولا سيما السرية منها.
حين نقل أحد أصدقاء روبرت خبر اختفائه إلى خطيبته هارييت، قال لها أن خطيبها –الذي من المفترض أن يكون في مهمة عسكرية في العراق- عالق في إيران، وأوعز إلى أن سبب عدم مجازفتهم لإنقاذه هو أنه موجود في مكان لا ينبغي أن يكون فيه.
“We are not allowed to overfly Iranian air space. We are not allowed to admit that we have any teams in Iran, although of course we have had teams in and out of there for years. It is a black operation. If we sent helicopters in and they were spotted, the Iranians would raise hell about it.” P. 192, Robert’s friend.
“لا يحق لنا المرور فوق المجال الجوي الإيراني. و لا يجوز أن نعترف بأن لدينا أي فرق عسكرية في إيران، على الرغم من أن فرقنا تدخل وتخرج هناك لسنوات. إنها عملية سرية. إذا أرسلنا مروحيات إلى هناك وتم رصدها، سيفتح الإيرانيون أبواب الجحيم.”
-صديق روبرت، ص 192.
ملاحظة
بقي أن أشير إلى معلومة مغلوطة ورد ذكرها على لسان أحد أعضاء القاعدة (طارق أنور) الذي يهاجم الشيخ صاحب مشروع صيد السلمون في اليمن، فجاء على لسانه في رسالة لأحد مستخدميه أن صيد السمك محرم على المسلمين يوم السبت، واستشهد بذلك بآية من القرآن، والمعروف في عقيدتنا أن قصة أصحاب السبت تخص اليهود وهذا الحكم لا ينطبق على المسلمين.
“It follows that the sheikh will be expecting them (Yemenis) to fish on the Sabbtah, which is expressly forbidden in the Koran.” P. 94, Tariq Anwar
“ويترتب عليه أن الشيخ يتوقع منهم (عامة اليمنيين) أن يصطادوا يوم السبت، وهو أمر محرم في القرآن”.
– طارق أنور، ص 94.