أن تبدأ متأخرا خيرا من ألا تبدأ أبدا: عن نشأتي قارئة
سونيا شونج
ترجمة: منيرة الحربي
جائتني فرصة مؤخرا للمشاركة في حلقة نقاش تابعة لمركز الرواية حول موضوع (الأسرة في العصر الحديث)، ثم طرح علينا مدير الحلقة سؤالا عن “كيف تأثرت بالأدب في صغرك” وذكر العديد من زملائي (Alden Jones, Min Jin Lee, and Tanwi Nandini Islam) مجموعة من الكتب والكتاب البارزين، وأعتقد أن إجابتي جاءت صادمة لهم، إذ أنني بالكاد قرأت في طفولتي وشبابي. كانا والداي من المهاجرين فلم تكن الإنجليزية لغتهم الأم ولم يظهرا اهتماما بالقراءة أو بالثقافة بنحوٍ عام. وبيتنا لم يحتوِ إلا على القليل من الكتب فلم تتح لي فرصة القراءة وأنا في صغري. ما زلت أتذكر كتابا واحدا وهو أحد كتب ديزني عن قصة عم دهب، أتذكر أنني قرأته عدة مرات، القصة تحكي عن شوربة تصنع بضغطة زر فقط! وعندما دخلت المدرسة كان هناك بعض الكتب التي قرأتها مجبرة لا متحمسة. كانت طفولتي تقليدية شاهدت فيها الكثير من التلفاز مع رقائق الدوريتوز.
أول كتاب قرأته رغبة مني كان (Annie Dillard’s A Pilgrim at Tinker Creek) في سنواتي الأولى من دراستي الجامعية، وهو وقت متأخر لكوني أكتب وأقرأ “باحترافية” الآن. ظلت القراءة لـ (Dillard) وستظل تجربة ماتعة إلى أقصى درجة، لا بد أنني أعدت قراءة كل صفحة كنت أتوقف وأحدق في الفراغ أو أدون بعض الملاحظات وأحيانا أهز رأسي بذهول، وقد تطلب مني إنهاؤه وقتا طويلا، وقد قررت فجأة عند انتهائي منه أن أصبح كاتبة أو أن أموت وأنا أحاول. أين كانت هذه النوعية من القراءة عني طوال حياتي، أدركت في ذلك الوقت أن هناك نوعا مختلفا من القراءة، وهو الذي يحدث فرقا أحب أن أسميه (القراءة بكامل الروح).
ذكر وليام جيمس في كتابه (تنوع التجربة الدينية) عن (النزعة الصوفية):
“تنسل تجربةُ الكتب واللغة بصفتهما مداخل لا محسوسة نحو لغز حقيقة الحياة وهمجيتها وألمها- إلى قلوبنا وتُدهشها”.
أنا ممتنة لمروري بلحظة التحول تلك فمنذ حينها أصبحت أقرأ بترقب واستعداد للتأثر بكل كتاب تقع عليه يدي. أحيانا ما أشعر بندم لتأخري في الدخول إلى عالم الكتب وقد كتبت عن ذلك قبل عدة سنوات عن الخطة القاسية التي وضعتها لتدارك ما فاتني ووضع نفسي فوق مسار عالم الأدب لكن هذا الشعور بالنقص ما لبث أن أصبح محفزا لي للمزيد من القراءة. أنا قارئة نهمة ولم أفقد الشغف الغامض عند القراءة الذي تحدث عنه وليام “لا نصل بالتفكير المنطقي إلى حالات الاستبصار وأعماق الحقيقة… والإنارات، والإفصاحات، والدلالة والأهمية الكاملتين، التي يُعجز التعبير عنها جميعا رغم وجودها”.
تمكنت في سنة 2016 بفضل الإجازة السنوية من القراءة أكثر مما تعودت، وقرأت بعض الكتب الخاصة بالكنيسة لأول مرة، أسرتني كليا وأشعرتي أنه لا يفوت الأوان أبدا في عالم القراءة (في الحقيقة قد يكون هناك “من السابق لأوانه).
– رواية (The Maltese Falcon by Dashiell Hammet) أحسن رايموند تشاندلر التعبير بقوله: أخذ هاميت المزهرية الفينسية المغطاة وقذفها نحو الزقاق… فهو يكتب للناس الذين يعانون من حدة الحياة وعدوانيتها. الذين لم يكونوا خائفين من الجوانب السيئة للأمور؛ فقد عاشوا هناك… لديه أسلوب لم يعلم جمهوره به لأنه لم يكن من المتوقع تحسين اللغة بهذا الشكل.
لقد أعجبت بشخصيات الرواية خصوصا شخصيات النساء Brigid O’Shaughnessy و Effie Perine في اللحظة التي تقلق فيها من نظرة الكاتب التقليدية للجنسين تصدمك الشخصيات والحبكة (بالطبع أعني هاميت) وتحطم ذلك القلق. وبالمصادفة قرأت The Big Sleep لكني لم أفضله مثل هامييت، ولقد بدأت للتو قراءة The Glass Key بناء على توصية تشاندلر يبدو أنني بدأت بإدمان قراءة هاميت.
رواية نساء صغيرات لويزا ماي ألكوت Little Women by Louisa May Alcott. هذا الكتاب شعرت أنه يجب عليَّ قراءته لأني أعلم الكثير عنه، وأظن أنني شاهدت نصف فيلمه في الطائرة مثلت دور البطولة Winona Ryder، كنت متأكده أن شخصيتي تشبه جو.. لكني تفاجأت (خفت بعض الشيء) برؤية الكثير من ذاتي في آمي. من الجدير بالذكر أن الرواية تحكي عن المال والنساء لتذكرنا بتعقيد الاقتصاد والنوع (الذكر والأنثى).
– رواية عشيق السيدة تشاترلي – ديفيد هربرت لورانس Lady Chatterley’s Lover by DH Lawrence
أفترض أن كل شيء مرتبط ببعضه ولكن في عصرنا المستنير أصبحت العلاقات بين النوعين شمولية أكثر وأقل إثارة جسديا، حتى بعد تسعة من كتابة هذه الرواية ما زلت أرى أن المحتوى الجنسي فيها متفتحا. ولكن من حسن حظنا نحن قراء العصر الحديث أنه لا شيء يصدمنا، لذا فمواضيع الرواية كـ- الطبقات الاجتماعية، والنزاهة، والعلاقة بين الحب والشهوة، والإنسان ككل- تملك متسعا لتمضي قدما.
– الملك لير، عطيل، قصة الشتاء – وليام شكسبير.
King Lear, Othello, and The Winter’s Tale, by William Shakespeare.
لم أكن متأكدة أني قرأت الملك لير سابقا ولكن لمرة أخرى كنت أعرف القصة جيدا ولكن مجرد نبذة مختصرة، بدأت قراءة اللغة في كتابات شكسبير، فحتى لو سبق لي قراءته فهو جديد تماما لي، وهنا أعرض عليكم طريقة أخرى للقراءة وهي عن طريق الاستماع: لأن مؤلفات شكسبير كتبت لتُمثَّل ولذلك تعد التجربة الصوتية الخالية من الإبصار طريقة مذهلة للانغماس في إبداع شكسبير اللغوي والدرامي. لا أنكر أنني في بعض الأحيان أحتاج إعادة سماع بعض المقاطع لأتعرّف على الشخصية التي تتحدث ولكن التجربة تستحق. أكملت مسرحية عطيل وقصة الشتاء (غيرة الرجال غير العقلانية هي موضوع لم أتفق عليه قط مع شكسبير) وأعتقد أنني مستعدة للبدء بالمسرحيات السياسة التاريخية.. ومسرحية هنري الرابع في قائمة الانتظار.
– رواية اذهب وقُلها على الجبل وغرفة جيوفاني – جيمس بالدوين.
Go Tell It On the Mountain and Giovanni’s Room by James Baldwin.
في وقت آخر من حياتي، لربما قرأت الكتاب الأول كإدانة قاطعة للمسيحية. لكني صدمت من تعاطف الكاتب بالدوين مع شخصية غابرييل، وهي شخصية بُنيت على أساس تشدد والده الديني والنفاقي لا سيما في: “بدأ يبكي بعدها بصمت، وهو جالس عند الطاولة، وجسمه يرتجف بالكامل… وأخيرا، وضع رأسه على الطاولة… وأخذ يقلب فنجان القهوة وينتحب بصوت عال. ثم بدا أن الصراخ يعمُّ الأرجاء، ومياه الألم تجوب العالم”.
(لن نستطيع فصل كتابات بالدوين عن الدين، وإن فعلنا فسنفسد أعمال أفضل كتابنا الروحانيين)
Giovanni’s Room تحكي تجربة شخصية وفنية. وكتابة بالدوين عن الحب والجنس والهوية والمال والنزاهة دون أن يغرق في السوداوية، تلهمني وخصوصا -في هذه المرحلة من الجدل حول الكتابة العرقية- ويثير فيَّ أسئلة التي ما زلت أطرحها إلى الآن.
– رواية يقظة امرأة – كيت شوبان.
The Awakening by Kate Chopin.
رواية أخرى قديمة أدهشتني لكونها عصرية وذات صلة بالواقع فما زالت المرأة تكافح لتكون “أنانية” أي أن يركز المرء على احتياجاته الحسية والإبداعية. أظهرت الكاتبة تشوبن/ إيدنا جاذبية لثقافة الاختلاف- ثقافات اللون والاختلاط واللا مساواة الاجتماعية واحتمالاتها. يمكن القول أن ذلك رديء بعض الشيء ولكنه لا يختلف عن ما نطلق عليه اليوم (التحسين): يرغب البيض الأثرياء ذوي الخلفيات المتجانسة في زيادة جودة حياتهم عبر استغلال امتيازهم في التاريخ الحَضَري، حيث تنبثق الثقافات من النضال والخبرة المتقاطعة. وصف شوبن لشخصية (إيدنا) وتمركزها حول نفسها تكرّرَ صداه بيني وبين نفسي مرارا وتكرارا “كانت هناك أيام تشعر فيها بالسعادة دون معرفة السبب، سعيدة لكونها حية وتتنفس، وكأن كامل وجودها توحد مع ضوء الشمس والألوان والروائح والدفء المترف ليوم جنوبي مثالي. أحبت أن تتجول بمفردها في أماكن غريبة وغير معتادة، واكتشفت زوايا مشرقة واخرى هادئة للأحلام. ولقد وجدت أنه من الجيد أن تحلم وأن تكون وحيدا وتعيش حرا… حتى عندما كانت طفلة عاشت حياتها الصغيرة في داخلها، وأدركت في مرحلة مبكرة من حياتها بنحوٍ غريزي الحياة المزدوجة -الوجود الخارجي الذي يتوافق، والوجود الداخلي الذي يتساءل-“. أعطت شوبن تعريف للتجربة الصوفية -وهي اللحظات التي يتساءل فيها الوجود الداخلي- لا شك أن جيمس سيقدر هذا التعريف. رواية يقظة امرأة هي رواية تكوين عن حياة شخص من طفولته حتى البلوغ في مسعاه إلى التكامل -انهيار الوجود الداخلي مع الخارجي. أحببت فكرة كل كتاب قرأته- قراءة بكامل الروح، وكوني جزءا من هذه الصيرورة: تطور خاص وهادئ لأجل ذات أَكْمَل، وفي عالم يجب علينا السعي من أجل جعله أكرم وفادة مما فعلت إيدنا بونتيللير.
* روائية أمريكية ذات أصول صينية.