شارلوت وإيميلي برونتي

ترجمة: مؤمن الوزان
نقلت الأختان الروائيتان شارلوت وإيميلي برونتي الأدب الإنجليزي نقلة نوعية برواياتهما العاطفية، والتي كانت تركز غالبا على الحياة الشخصية للنساء. عاشت الأختان حياة قاسية قصيرة انتهت على نحوٍ مأساوي نتيجة المرض.
وصلت عائلة برونتي إلى قرية بيكتشرز كيو بينيني في هاورث، غرب يوركشاير، لندن، في عام 1820. كان الكاهن باتريك برونتي، من أصلٍ إيرلندي، وكانت زوجته -اسمها الرسمي ماريا برانويل- ذات أصول كورنية (من سيلتك). غادر باترك وطنه من أجل تحسين آفاق مهنته، وتخرَّج في قسم اللاهوت من كل القديس جون في عام 1806. ومنذ ذلك الحين غيّر لقبه الأيرلندي (Brunty or Purnty) إلى Bronte، والذي يترجم “رعد” عن الإغريقية. التقى باتريك وماريا في يوركشاير، حيث انتقلت ماريا لمساندة خالتها في إدارة مدرسة تدريب ميثودية (طائفة بروتستانتية) جديدة. في الوقت نفسه دعي باتريك -الذي كان قد أصبح الآن قسيسا في شروبشير- للعمل هو الآخر في المدرسة بصفة “مُمتحن” خارجي. وقع الاثنان في الحب من أول نظرة وتزوجها بعدها بمدة قصيرة، ثم انتقلا إلى هارتسهيد، حيث أنجبا ابنتهما الأولى ماريا. وُلدت بعد ذلك إليزابيث، وشارلوت، وبرانويل (الابن الوحيد)، وإيميلي، وآن، في ثورنتن، قبل أن تتخذ العائلة من هاورث مستقرا لها.
ضربات مأساوية
أخذت عائلة برونتي منحا مأساويا في عام 1821 حين توفيت الأم ماريا بسبب سرطان الرحم أو المبيض، مخلّفة ستة أطفال دون سن الثمانية. صوّرت الأختان هذه الصدمة المبكرة عبر وصفهما العديد من شخصياتهما الأنثوية بأنها بلا أم أو يتيمة. انتقلت الخالة إليزابيث برونتي إلى البيت المخصّص للقسيس لمساعدة صهرها في تربية أطفاله وإدارة شؤون البيت عموما. وفي عام 1824، أُرسِلت الأخوات الأربع الكبار إلى مدرسة داخلية في كوان بريدج على أمل أن يصبحن مربيات فيما بعد. كان والدهن يريد لهنّ أن يتلقّين تعليما جيدا، على الرغم من مصادر دخله المالية المحدودة. لكن التجربة التي أعادت شارلوت صياغتها في رواية جين إير بوصفها لمدرسة لووود كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون مفيدة أو تمكينيّة. كان للظروف البائسة من طعام سيئ النظافة تبعات مأساوية: فقد أصيبتا ماريا وإليزابيث بمرض السل وأرسلتا إلى المنزل، حيث توفيتا في شهري أيار/ مايو وحزيران/ يونيو من عام 1825. وهكذا، درست شارلوت وإيميلي مع برانويل وآن في هاورث بعد هذه الحادثة، بالإضافة إلى أنهم أصبحوا متنوِّرين، فقد كان لديهم أبٌ عطوف، اشترى لهم الكتب والألعاب التي طلبوها. أعد والدهما كذلك مكتبة كبيرة مُعتبرة في منزل القس، وكانت خالتهما -والتي كان لها دخلٌ شخصيّ من ثروة عائلتها- مشتركة في مجلّات دورية، اعترفت شارلوت لاحقا بأنَّها كانت تقرأها سرًّا بمتعةٍ كبيرة.
ألعاب خيالية
ابتكر الأطفال بزعامة شارلوت وبرانويل ممالك مُتخيّلة بإتقان وتفصيل وذات حبكة (غلاس تاون، وأنغريا، وغوندال). ألهمتهم هذه الممالك الثلاثة العديد من المقالات والقصائد التي نُشرت في “مجلتهم” المصغّرة، مجلة بلاكوود برانويل (التي أعادت شارلوت تسميتها إلى مجلة الرجال اليافعين). كتبت شارلوت ستة من التسع طبعات، مُتّخذة الاسم التحريري “كابتن تري Captain Tree”، لكنها وقعت أعمالها كذلك باسم “العبقري ش. ب.”. كانت أبعاد المجلة “3.5 سم” و”6.1 سم” فحسب، كما لو أنها نشرت بواسطة -ولأجل- دُمى جنود برانويل الاثني عشر التي أعطاها إيّاه والدها. ركّزت إيميلي أكثر على كتابة القصص والأشعار لجزيرة غوندال المتخيلة، والتي كانت تبتكرها وتشاركها مع أختها الصغرى آن، لكن لم ينجُ من كتابات إيميلي هذه سوى عدد قليل من القصائد. قضى الأطفال وقتهم أيضا في الأراضي البرية خلف منزلهم في هاورث، واستحوذت المناظر الطبيعية البرية والوعرة على رواية إيميلي الوحيدة “مرتفعات وذرينغ” التي أصبحت رواية إنجليزية كلاسيكية. امتلأت هذه الرواية بالعناصر القوطية (الأحداث الروحانية، والحالات التشاؤمية، والإشارات المنذرة بالشر). إنها حكاية عميقة حول الرغبة والشغف والثأر. بإطلالة القصر الكئيب لمرتفعات وذرينغ على الأراضي الوعرة، تعتبر الرواية مكانا للخوف من الأماكن الضيقة والأذى، ورمزا للاضطرابات النفسية لأبطال الرواية.
المِهَن الأولى
تبدد الجو الإبداعي الكبير لشخصيات هاورث بسبب فكرة باتريك برونتي بأن على بناته أن يجنينَ دخلا للعيش. وهكذا، تدرّبت شارلوت من عام 1831 إلى عام 1832 في مدرسة رو هيد لتكون مربية، وعادت إلى المدرسة نفسها في عام 1835 لتشغل وظيفة تعليمية. كما قصدت إيميلي المدرسة عام 1836 لكن اعتراها حنين إلى الوطن، فأخذت آن مكانها. كتبت شارلوت في عام 1833 وبسن السابعة عشر روايتها القصيرة الأولى “القزم الأخضر” باسم قلم “ويليسلي” واستمرت في نظم الشعر أثناء تعليمها في مدرسة رو هيد. كانت كتاباتها مصدر سلوى عظيما في ذلك الوقت، إذ شعرت بأنها قانطة ومنعزلة ووصفت طلابها بـ “الحمقى الأغبياء”. وبعد ثلاث سنوات أصبحت مربية خاصة في منازل مختلفة في يوركشاير، وكتبت لإيميلي عن شعور تعاسة وسخط أكبر: “مربية خاصة ليس لها وجود، ولا تُعدُّ كائنا ذا وجود عقلي وحياتي إلا فيما يتعلق بواجبات مُتعبة عليها أن تنفذها”. أمّنت إيميلي بسن العشرين وظيفة لها معلمة في مدرسة، لكنها لم تستطع التأقلم مع العمل الممتد سبع عشرة ساعة يوميا. وهكذا، عادت إلى هاورث لتؤدي الواجبات المنزلية هناك حتى عام 1842، عندما بادرت الخالة بتزويد شارلوت وإيميلي بدخلٍ يمكّنهما من السفر إلى بروكسيل معا لتحسين لغتهما الفرنسية والألمانية تحت إشراف قسطنطين هيغر، وذلك كي يتمكنا في نهاية المطاف من افتتاح مدرسة أهلية خاصة بهنَّ في هاورث. كانت كلتاهما طالبتين مجتهدتين على الرغم من أن إيميلي لم تتأقلم مع الحياة في بلجيكا، وشعرت فيها بالغربة إلى حدٍّ ما. بقيت الأختان هناك حتى النهاية المفاجئة بموت خالتهما، فعادتا إلى المنزل في إنجلترا. غير أنّ شارلوت كانت قد كوّنت علاقة في بروكسيل، وعادت إلى المدينة مرة أخرى في السنة التالية لتُدرّس فيها. تكشف رسائلها عن الشغف الذي نمى لديها تجاه قسطنطين هيغر، لكنه كان على ما يبدو -وعلى نحو كبير- حبا من طرف واحد. وعلى الرغم من هذه التجربة لم تنتهِ على نحوٍ إيجابي فقد ألهمتها لكتابة رواية “الأستاذ” في عام 1847، والتي لم تنشر إلا بعد وفاتها في عام 1857، واستخدمت فيها بعض العناصر الفنية التي ظهرت في روايتها الأخيرة فيليت التي كتبتها عام 1853.
شغف سري
اجتمعت الأختان من جديد في هاورث منذ عام 1844، وباءت محاولتهما في تأسيس مدرسةٍ خاصّة بالفشل، لذا اتجهت إيميلي إلى الشعر سرا، ناظمةً إياه في دفتري ملاحظات لديها، والتي حرصت على إخفائهما عن أفراد أسرتها. كان رعب إيميلي الشديد يتمثل في عثور أحد على الكتابين، وهذا ما حدث بالفعل، إذ عثرت شارلوت عليهما بالصدفة وجادلت أختها بضرورة نشر هذه الأشعار. في ذلك الوقت تقريبا، كشفت الأخت الصغرى آن عن كتابتها للشعر في الخفاء هي الأخرى. في نهاية المطاف، اتفقت الأخوات الثلاثة على نشر كتاباتهن في عمل مشترك. وهكذا، جمعن قصائدهن في ديوان صغير وطبَعنه على حسابهن الخاص، ونشرنه -متكفّلاتٍ كذلك بجميع أجور النشر- عبر شركة إيلوت وجونز للنشر، تحت الأسماء المستعارة: كورير، وإيليس، وأكتون بيل. وذكرت شارلوت بأنهن اتخذنَ هذا القرار؛ أي استخدام اسماء مستعارة، لأنه كان لديهنّ “ذلك الانطباع المبهم عن المؤلفات وكيف أنهن عُرضة لنظرات متحيّزة”. نالت القصائد في السنوات اللاحقة إعجابًا معتبرًا، ولا سيما قصائد ايميلي (إيليس). وفي عام 1941، أي بعد قرن تقريبا من وفاة إيميلي، طُبعت قصائدها -ما مجموعه مئتا قصيدة تقريبًا- في ظل اعتراف بجدارتها الأدبية. بيد أنه لم ينتج عن نشر الديوان عام 1846 سوى بيع نسختين فقط. لم تدون الفتيات ردة فعلهن تجاه هذا الاستقبال الضعيف لظهورهنّ الأول، لكن المؤكّد أن إيميلي تحوّلت من نظم الشعر إلى الكتابة النثرية. لكن بما أنهن كشفن النقاب عن شغفهن بالكتابة، أصبح بحثهنّ عن ناشرٍ أمرا محوريًا.
الشروعُ في العلن
في السادس من نيسان/ أبريل عام 1846 كتبت شارلوت إلى إيلوت وجونز بأن “كورير، وإيليس، وأكتون بيل يحضّرون لعمل خيالي مكون من ثلاث حكايات مميزة ومنفصلة”. والأعمال هي: الأستاذ لشارلوت، ومرتفعات وذرينغ لإيميلي، وأغنيس غري لآن. ووافق بعد مدة الناشر توماس نيوباي على نشر الروايتين الأخيرتين فقط. وعلى الرغم من رفض عدة ناشرين رواية الأستاذ، فإنها نالت تشجيع الناشريْن سميث وإيلدر اللذين طالبا برؤية المزيد من أعمال كورير بيل. وفي أغسطس من عام 1847، أرسلت إليهما شارلوت عمل “جين إير: سيرة ذاتية”. نشرت الرواية بعد ستة أسابيع. ارتكزت حبكة الرواية التكوينية، والتي تناولت قضايا الهُوية، والجنوسة، والعِرق، والطبقة الاجتماعية، على تتبّع حياة البطلة من الصّبا حتى البلوغ. سبّب المؤلفون المجهولون موجات صدمة في الحلقات الأدبية، وقوبلت المشاهد العميقة ذات المحتوى العاطفي الغرّ في مرتفعات وذرينغ بالصدمة والغضب والإعجاب الصارخ على حد سواء. أربكت رواية جين إير على نحو مشابه القرّاء لكنها حظيت بإعجابهم. كتب جورج هنري لويس، شريك جورج إليوت، في مراجعته للعمل لمجلة فراسير بأنّ الشخصيات “رُسمت بدقة هائلة وغير معتادة”، بيد أن الأسلوب كان “غريبا”، واقترح بأن المؤلف قد يكون امرأة، الأمر الذي كان بمثابة خيبة كبيرة لشارلوت إذ شعرت بأنّه إلهاء ودعوة لتخميناتٍ غير مرغوب بها.
سنوات مُظلمة
لم تكمل إيميلي روايتها الأخرى حتى ابتليت حياة الأخوات العائلية بتدهور الصحة، فقد أصيب والدهنّ بإعتامٍ في عدسة العين، وبدّد أخوهن مواهبه وأصبح مدمن خمر وأفيون ومات في سنة 1848، لتلحق به إيميلي المسلولة في شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه بعمر الثلاثين، والتي كانت نحيفة جدا لدرجة أن عرض كفنها كان 40 سنتيمترا فقط. وتبعتهما الأخت الصغرى آن في أيار/ مايو عام 1849. شرعت شارلوت -من أجل التعافي من هذه الخسارة الفادحة- بكتابة روايتها الثانية “شيرلي” عام 1848، وهي حكاية كئيبة عن التغيّر التقني والمعاناة والشقاق الاجتماعي، ويمكن القول إنها رواية أقل قوة من جين إير. ومن جديد، وجدت شارلوت في الكتابة عزاء لها. وصفت روايتها “فيليت” مغامرة وقصة حب في مدرسة ناطقة بالفرنسية، وطُبعت بعد أربع سنوات وتلقت قبولا كبيرا بالرغم من أن شخصية لوسي بدت غير أنثوية. وافقت شارلوت على الزواج من مساعد القسيس آرثر بيل نيكولاس الذي يعمل مع والدها، وذلك قبل نشر رواية فيليت، الرواية التي كان مقررا أن تكون عملها الأخير. وبعد أخذ وجذب وتشجيع من زميلتها المؤلفة إليزابيث غاسكيل (التي كتبت أول سيرة عن حياة شارلوت) حزمت شارلوت أمرها على المضي قدما في الزواج عام 1854، لكن الحياة المأساوية لآل برونتي اختُتمت بموت شارلوت وهي حامل بطفلها الأول بعد مضي شهور فحسب على زواجها وهي بعمر الثامنة والثلاثين.