دم الأوانس
قصة قصيرة

منذ زمن بعيد، وفي إحدى المدن الكبيرة، كان شاعر شاب قد شارف على اليأس من بلوغ المجد بالشعر الذي أحبه منذ نعومة أظفاره. بذل أقصى ما بوسعه ليحسن من جودة شعره، ويرتفع به نحو قمم الإبداع والبراعة. أكب على قراءة معظم شعر الأقدمين وزار مدنا جميلة باهرة تُنطق الأخرس شعرا، وعرضت أمام عينيه روائع العمارة التي يتضاءل الإنسان أمام عظمتها وهو صانعها. حالفه الحظ ليعيش في مدن تتعاقب عليها الفصول بأروع تغيراتها. فشهد أمسيات ربيعية تخللها ضوء القمر فأسبغ على الأشجار وعلى البيوت غلالة من نور خفيف وترقرق ضوؤه على البحيرات كأشرطة مضيئة. وشهد نهارات دافئة انسابت أشعة شمسها على الحقول والبراري، فتوهجت الأرض ببريق كالذهب، والتمعت مياه الجداول الصغيرة مرحبة بفيض النور على صفحاتها. رأى الثلج يكسو قمم الجبال الخُضر وتتكوم ندفه البيضاء كالقطن على الأسطح المائلة وعلى الطرقات. ألِفت قَدماهُ معاهد الصِبا، وتشربت نفسه مشاهد الجمال في ذروة انبعاثه، ومع ذلك لم تستجب قريحته ولا تفتق ذهنه إلا ببضع قصائد رديئة. هذر سخيف لا يمكن أن يسمى شعراً. هل خدع نفسه طيلة تلك السنوات بكونه قد خُلق للشعر وأن الشعر قد خلق له؟ إذا لم يكن كذلك فلماذا لا يعجز عن النظم كما ينظم أولئك الشعراء المفوهون وهو الذي لا ينقصه شيء عنهم بل ربما فاقهم إحساسا ورهافة، كما يخيل إليه. أصابه غم رهيب حين أدرك أنه بذل ما بوسعه فلم يحصل على نتيجة. اعتزل أهل مدينته وهجر منزله ومضى يجول في بلدات بعيدة رث الهيئة هزيلاً ضامراً، ينام على الطرقات وفي القفار الموحشة. أوشك على الجنون أخيراً فحلم المجد كان يملأ عليه حياته. ذات يوم وهو نائم متوسدا جذع شجرة أيقظه صوت خشخشة بالقرب منه. فتح عينيه فبرز أمامهما كائن غريب الشكل دميم الخِلقة ما هو بإنسان ولا هو بحيوان. شخص الشاب ببصره نحوه مرتاعاً فزعاً فأسرع المسخ يطمئنه.
– مرحبا يا عزيزي. لم تنام هنا وحدك. قال المسخ الذي لاح شبحه وسط الظلمة.
– من أنت أيها الكائن القبيح، وما شأنك بي؟
– لا تدعني بالقبيح فلم آت لإيذائك. ثم انظر هل نفعتك وسامتك بشيء كما سينفعك قبحي. إنني هنا لمساعدة أي غريب يمر بضائقة وأنت تبدو لي غريب عن البلدة.
– نعم أنا غريب عنها. ولكن هل أنت متأكد من أنك ستساعدني إذا عرفت ما يسوءني؟ إنها أزمة صعبة تعصف بروحي ولا أظن أنك تقدر على حلها.
– متأكد. ولكن ليكن بعلمك أن الحل سيكون بيدك ولن أساعدك بسوى النصائح فإذا طبقتها كما سمعتها حُلت أزمتك.
– فليكن. إليك همي. إنني أعجز عن قول الشعر على حبي الجارف له منذ صغري، وعلى رغبة عارمة تشتعل في نفسي لكتابته. لكن قلمي لا يخط سوى رديء الكلام وقريحتي لا تجود سوى بلغو سخيف. فأين يكمن السبب المسؤول عن إخفاقي، وما الحل الذي ستعطيني إياه؟
– الحل سهل!
– ما هو؟ أنقذني أرجوك وسأكون تحت خدمتك. هذا وعد
– لا أريد منك أن تكون تحت خدمتي! سأعلمك ما يجب أن تفعله لأن تلك مهمتي ولا أطمع بالجزاء. الحل أيها الشاب، ستجده في قلوب الأوانس. من قلوب الحسان ستبدع عظيم الشعر. ولكن لحظة، لا يدخلن بوهمك أني أريد أن تملك قلوب كثير منهن، وتأسر أفئدتهن بحب صادق فيتدفق الشعر منك كنهر جار. لا! إذا أحببت صادقا فلسوف تقع أسير نزواتهن ولن تخط سوى القليل من الروائع التي تقطر خيبة وأسى، لأن كل واحدة منهن ستسعى للاستئثار بك ولن تفلتك لغيرها دون أن تسعى لتدميرك. وعلى العكس، احرص على أن يحببنك بصدق، وإلا فإنك في كلتا الحالين ستعود كأخرق محطم يواسي نفسه أرِقاً ببضع قصائد متقنة.
ما سأقوله لك حل فظيع لكنه مُجدٍ وستشكرني عليه لاحقاً.
– هاتَ ما عندك.
– في البداية ستبذل بعض الجهد لتوقعهن في شباكك، وحين تنجح بذلك ستجيء المهمة الأصعب. ستستدرجهن إلى أمكنة بعيدة عن أعين الناس وتقتلهن بأية طريقة رحيمة. نعم ستقتلهن لا تحدق إلي هكذا. الأمر يتطلب قليلا من الشجاعة. ولكني لم أصل بعد إلى النقطة الأهم. بعد أن تقتلهن (بلا قسوة كما أسبقت) ستجهّز مديتك لتشق الصدر وتنتزع القلب من مكانه وترمي بعدها الجثة جانبا، ثم تهرب إلى منزلك وقلب الفتاة بحوزتك. وهناك ستعصره بيديك وتفرغ الدم في كوب صغير ثم تشربه، ولا تسل بعد ذلك كيف سينطلق لسانك من عقاله! ستسود صحائفَ لا تحصى بروائعك.
– ولكن، أما من طريقة أهون من هذه. ليس بالسهل على شاب مثلي ارتكاب وحشية كهذه.
– ليس بالسهل أعلم ذلك، لكن عليك ألا تفكر بالوسيلة إذا عظُمت الغاية. ماذا ستخسر الأرض أو تفيد ببقاء هاته النسوة الحمقاوات التي وقع عليهن اختيارك. لا شيء! أما أنت فلسوف تثري بروائعك تاريخ الفن الإنساني ولسوف ترقى إلى مصاف الخالدين الذين ذرفت ملايين العيون دموعها تبجيلا لما صنعوه. لسوف يسعد بشعرك بعد موتك خلق كثير! ما أهمية موت العشرات مقابل منفعة الملايين؟ ستخاف بادئ الأمر لكنك ستعتاد، أوكد لك.
أطرق الشاب مفكراً ثم قال:
– أعتقد بأنك على صواب. طريق المجد لن يكون معبداً كما ظننته. سأحاول تطبيق ما نصحتني به حرفاً بحرف ولن أتخاذل. عسى أن تواتيني الشجاعة وأن لا تعرف الرحمة إلى قلبي سبيلاً.
– حرفاً بحرف وإلا كتبت بيديك نهايتك! هيه، لحظة أيها الشاب الطموح قبل أن تغادر. إذا لم تجد أثراً لما قلته تعال إليّ هنا واصنع بي ما تشاء. سأضع نفسي تحت تصرفك. المهم أن تكون حذرا وتخفي آثار جرائمك.
لوهلة اختفى ما يُحس به من ضعف وفتور كانا يكبلان أطرافه، فانطلق الشاب ركضاً نحو مدينته وأفكار نصب الأحابيل لفتاته الأولى ورعب ما سيقدم عليه، وعنفوان الشهرة، تضطرم نيرانها في صدره. كان يركض لاهثا كأن أحدهم سيسرق فكرته إذا ما أبطأ في سيره. في صباح اليوم التالي بدأ بنصب الفخاخ ولم يمض أسبوع حتى كان قد أسر قلب شابة حسناء تقطن بالقرب منه. ومضى ينفذ جريمته. شعر في بادئ الأمر بالخوف واضطرب قليلا لكن كلمات المسخ تتردد في رأسه فتثير همته وتطرد خوفه شيئا فشيئا، حتى إن يده التي ارتجفت وهي تمسك بالمدية استقرت وأنهت عملها بثبات. لدى عودته إلى منزله كان قلب الضحية قد استقر على طاولته، فمضى يعصره بيديه الجلفتين ويفرغ الدم في الكوب، واستعد ليتجرعه. ضغط بيديه على أنفه وأغمض عينيه ثم أفرغه في جوفه دفعة واحدة. أحس حينها بغثيان شديد وراح يذرع الغرفة طولا بعرض مبتلعاً ريقه باستمرار خوفا من أن تقيء معدته. مرت خمس دقائق فزايلته الأعراض الرهيبة وعاد يشعر بالقوة فحمل القلب الذي صيره كخرقة بالية لفرط ما عصره، ووضعه في كيس وأحكم غلقه معتزما التخلص منه في الغد. افترش سريره متعبا من فرط اهتياجه وراحت تهاجم خياله صور جريمته وحدقات الفتاة المرتعبة المتوسلة، ثم تردد مرة أخرى ذلك الصوت، صوت المسخ الذي يعده بالمجد فامّحت تلك الصور واحدة تلو الأخرى، وتلاشت وسط ظلمات سحيقة فعاودته السكينة واستسلم حينها لنوم عميق.
كان المسخ صادقا فلم تكد شمس الغد تطلع حتى بدأت الأبيات المقفاة تزدحم في رأسه. أخرج القصاصات التي كان قد جمعها ليتخلص منها في لحظة يأس، وامتشق قلمه فملأ معظمها شعراً يفيض روعة واتساقاً. كان يكتب بغزارة كأنما هو يغرف من نبع لا ينضب ماؤه، فامتلأت نفسه لذلك جذلا و زهواً. تصدر نوادي الشعر واجتماعات الشعراء في شتى المحافل، وكان كلما أحس بنضوب ذلك النهر أعاد الكرة ونصب الأحابيل لفرائسه اللاتي كن يجهلنه فهو لم يصل بعد إلى ذروة الشهرة. واستمر على ذات المنوال فكانت شهرته تزيد يوما بعد آخر ومآتم العزاء تزيد مع اطرادها، فلا يمر شهران حتى تفجع أسرة بابنتها الشابة. وذاع في البلدة نبأ القاتل الرهيب الذي يسرق قلوب الفتيات ويرمي بجثثهن في قفر مهجور، وانتشر الرعب بين الأهالي، ولم يعرف أحد من عسى يكون ذلك المجرم وما غرضه. وجهت أصابع الاتهام لكثير من الشبان المتسكعين لكن الأدلة مفقودة والعلائم التي تتضح لا تشير لأي من هؤلاء. وبالتزامن مع تلك الضجة كان الشاعر الشاب يتربع على عرش المجد بقصائده التي تنثال انثيالاً فلا يكاد يوقفها شيء. كان مضرب المثل في النبوغ ومرحباً به في كل مكان يزوره. توجهت جميع الأنظار إليه وحسدته طائفة من الشعراء الصغار فأضمرت له الغل والحسد. حين رأى مبلغ ما أحدثته جرائمه من خوف وهلع قرر أن ينتقل من بلدة إلى أخرى فيستقر في كل منهما لزمن معين ويواصل ارتكاب جرائمه دون أن يُكشف أمره او تتسلل إليه الشكوك. بدأ يشد رحاله ويحزم أمتعته فانتقل إلى بلدة مجاورة وهناك اعتقد بأن أحداً لن يعرفه. لكنه كان مخطئا في اعتقاده، فقد طار صيته حتى وصل بلدات بعيدة. كانت ألسنة الناس تتداول أشعاره التي تتفجر عذوبة ورقة، وطاب للعشاق أن يدونوا أبياتها في مراسلاتهم ويحفظوا منها ما أمكنهم. لم يألوا جهدا ليوقع الفتيات في شباكه -كما كان قديما- فيكفي أن تسمع إحداهن اسمه او تقرأ له قصيدة واحدة حتى يذوب قلبها ويجمح بها الخيال إلى آفاق مجهولة لكنها مشرقة وتعد بالآمال الكبار! في السابق حين بدأ أول مرة بتطبيق نصائح المسخ كان يضطر إلى الخداع والى اجتراح بطولات سخيفة ليوقعهن في حبه وكن أولئك اللواتي يصدقنه يحببنه حبا صادقا لا غاية من ورائه. أما الآن وبعد أن نال كل ما كان يحلم به فإن واحدة منهن لم تكن لتكلف نفسها أن تستشف حقيقته. كان بريق مجده يزيغ أعينهن ورهافة حسه تعبث بقلوبهن الرقيقة وما كان أسعده حين يراهن يتهافتن عليه كتهافت الفراش على النار! كانت روحه إذ ذاك تحلق بجناحين نحو فردوس الخلود الذي يضن على ملايين البشر بدخوله ويستثني فئة قليلة منهم. لقد نسيَ ما نصحه به المسخ عن ضرورة صدقهن لفرط ما أدارت الشهرة رأسه. واصل ما بدأه في بلدته وارتكب جرائمه بهمة عالية وروح لا تعرف الكلل. عاد يرص على طاولة أخرى قلوباً أخرى ليعتصرها فيشعل دمها في جسده حرارة الإبداع المقدس، كما فعل ذلك من قبل. وامتشق قلمه هذه المرة بيد شاعر عظيم لا شاعر مغمور تلفظه التجمعات الشعرية. لكن شيئا مخيفاً بدأت تظهر علائمه. أحس أن قصائده الجديدة لم تعد تشبه سابقتها. بدت مملة وتفتقر إلى الإتقان. ويوما بعد آخر كانت تفقد الكثير من رونقها وسحرها. ورغم مواصلته اتباع نصيحة المسخ وفتكه بالعديد من الأوانس فإن تلك النصيحة بدأت تفقد أثرها، فعادت الحبسة اللعينة تشل لسانه. وعاد ذلك الخدر القديم يصيب عقله، فانقطع عن اجتماعات الشعراء وتجنب ما أمكنه ملاقاتهم. لقد لاحظوا هم أيضاً تدهور ملكته إلا انهم عزوا ذلك الى فتور الهمة الذي يصيب الشعراء عادة. حل الهذر السخيف محل تلك الروائع وعاد كسابق عهده يجاهد قلمه ليخط بضعة أبيات بلا روح. وإضافة إلى هذه الكارثة التي حلت به، كان جسده يصارع خطراً آخر مجهولاً. كان يحس طوال وقته بإعياء شديد وضيق في تنفسه. أراد أن يذهب لملاقاة المسخ فيستعلم منه انعدام أثر نصيحته لكنه من التعب بمكان فلم يستطع أن يغادر غرفته. كانت حالته تسوء بانقضاء الساعات. ولكي يمضي لياليه الموحشة راح يجمع قصاصات قصائده المتناثرة ليتعزى بذكرى نبوغه. ربما لأنني مريض خمل عقلي فعجزت عن الكتابة. لكن المرض طال وأحس به ينهش كل خلية من خلايا جسدي. هل ترى سأعيش لأبدع روائعا أخرى؟ إنني لم أشبع بعد من تذوق المجد بل أراني شرها له الآن أكثر من أي وقت مضى. هل يقدر ذلك المسخ على أن يعيد لي حيويتي وقوتي؟ لا أظن أنه يقدر. ذلك الكائن البشع. وأين يكون الآن. إنني أحتاجه، أحتاج أي كائن بقربي. أحتاج إلى واحدة من أولئك الحمقاوات. لو أنني أبقيت على واحدة منهن، واحدة فقط. ولكن ما عسى يفعلنه لي؟ سيبكين فوق رأسي أو يواسينني ببضع كلمات لن تحيي عظامي. كلمات! أيتها الكلمات العزيزة، ربما لن أستطيع بعد اليوم أن أصوغ منك أبياتا تذهل السامعين. أيتها القلوب التي استرخت على طاولتي وصبغتها بالدم ربما لن أقدر بعد اليوم على أن أعصرك بيدي المنهوكتين هاتين! وأنتن أيتها الحسناوات ربما لن أشوش عقولكن مرة أخرى. لن تسممن بعد اليوم دمي بدمائكن التي تنسج المجد في أثواب الهلاك. وحتى هناك، فيما وراء القبر إلى حيث أرسلت طائفة منكن، ستستفردن بي وتنكلن بجثتي ولن أقدر على فعل شيء!
بعد مدة طويلة من اختفائه عن الأنظار وجد الشاعر الشاب في غرفته ميتاً فوق سريره. وحوله وجدت متناثرة قصاصات عريضة سودت فيها المئات من قصائده. أحدثت وفاته المفاجئة ضجة كبيرة كتلك التي أحدثتها قضية اختفاء الفتيات والعثور على جثثهن مفرغة من القلب. كانوا يعدون لتكريم شاعرهم المبجل، ذي الروح المرهفة كحد السيف، لكنه باغتهم برحيله دون وداع أخير. لقد ظنوا بأنه كان في عزلة يستعيد بها نفسه فخاب ظنهم. لعله أقدم على قتل نفسه ككثير من الشعراء الذين يثقل الوجود على أرواحهم فيتخلصون منه بإرادتهم. ذلك ما كان يُقال وهو ما اتضح لاحقاً حين فحصه الأطباء فوجدوا آثار تسمم واضحة على الجثة. أما ما نوع السم الذي شربه وأزهق روحه به فذلك ما لم يستطع أحد معرفته أبداً.
دُفن وسره معه، وظلت روائعه تتردد حتى بعد وفاته، وملأت دواوينه الشعرية مئات المكتبات، واصطفت شامخة تتداولها الأيدي وتتغنى بها الألسن، فقلّ أن يخلو بيت من وجودها حتى تلكم البيوت التي فُجعت بغاداتها.
فاطمة ياسر: قاصة من اليمن.